التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب المناقب

          ░░61▒▒ كِتَابُ الْمَنَاقِبِ
          ░1▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] وَمَا يُنْهَى مِن دَعْوَى الجَاهليَّةِ.
          الشُّعُوبُ: النَّسَبُ البَعِيدُ، والقَبَائلُ: دُونَ ذَلِكَ).
          3489- ثمَّ ساق مِن حديث سَعِيدِ بن جُبَيرٍ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] قَالَ: الشُّعُوبُ: الْقَبَائِلُ العِظَامُ، والقَبَائِلُ: البُطُون).
          الشرح: ما ذكره مِنْ أنَّ الشُّعُوب النَّسَبُ البعيدُ يريد مثل مُضَرَ ورَبِيْعَةَ، هذا قول مجاهدٍ والضَّحَّاك، وواحد الشُّعُوب شَعْب بفتح الشِّين مثل كَعْبٍ كما قاله في «الموعَب»، وعن ابن الكلبيِّ بالكسر، وقال الهَجَريُّ في «نوادره»: لم يُسمع ذلك فصيحًا، وما ذكره عن ابن عبَّاسٍ ☻ في القبائل أنَّها البُطُون ذُكِرَ عنه أيضًا أنَّها الأفخاذُ. والذي ذكره أهل اللُّغة أنَّ الشُّعُوب مثلُ مُضَرَ ورَبِيْعَةَ، والقبائل دونَ ذلك مثل قُرَيْش وتميمٍ واحدتها قبيلةٌ، ثمَّ العَمَائِر واحدتها عِمَارة، ثمَّ البُطُون واحدتها بَطْن، ثمَّ الأفخاذ واحدها فَخْـِـذ _سكَّنَ خاءَه ابن فارسٍ وكسرها غيره_ ثمَّ الفَصَائِل واحدتها فَصِيلةٌ، ثمَّ العَشَائر واحدتها عَشِيرة، وليس بعد العَشِيرة حَيٌّ يُوصف.
          وقد أسلفنا عن الجَوَّانِي أنَّه قسَّم العرب إلى عشر طبقاتٍ، فبدأ بالجِذْم ثمَّ الجمهور ثمَّ الشَّعْب ثمَّ القبيلة ثمَّ العِمَارة ثمَّ البطن ثمَّ الفخذ ثمَّ العشيرة ثمَّ الفَصِيلة ثمَّ الرَّهْط، وقال ابن خَالَوَيه في كتاب «ليس»: الغاز دون الجِذْم وفوق الشَّعْب، وفي «الكامل» للمُبرِّد: الغازي بزايٍ مكسورةٍ، وذكر بعضُهم بعد العشيرة الذُّريَّة والعِتْرَة والأُسرَة، قال صاحب «المنتهى»: الشَّعب ما تشعَّبَ مِن قبائل العربِ والعجمِ، والشُّعُوب الأمم المختلفة، فالعربُ شعبٌ وفارسُ شعبٌ والرُّوم شعبٌ والتُّركُ شعبٌ، وفي الحديث: ((أنَّ رَجَلًا مِن الشُّعُوب أسلَمَ)) يعني: مِن العجم، وعن الزُّبَيْر بن بكَّارٍ: القبائل ثمَّ الشُّعُوب ثمَّ البُطُون ثمَّ الأفخاذ ثمَّ الفَصَائِل، وفي «المحكم»: الشَّعْبُ: هو القبيلة نفسُها، وقد غلبت الشُّعُوب بلفظ الجمع على جيل العجم.
          وقال الأَزْهَريُّ في «تهذيبه»: أُخِذت القبائل مِن قبائل الرأس لاجتماعها، وقال الجَوْهَريُّ: قبائل الرَّأس هي القِطع المَشْعوب بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَصِلُ بها الشُّؤون، وقال الزَّجَّاجُ: القَبيلة مِنْ وَلَدِ إِسماعيلَ كالسِّبْط مِنْ وَلَدِ إِسحاقَ سُمُّوا بِذَلِكَ ليُفرَّق بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى القَبيلةِ مِن ولد إسماعيلَ معنى الجماعة، يُقال لكلِّ جماعةٍ مِن واحدٍ: قبيلة، وَيُقَالُ لِكُلِّ جَمْعٍ عَلَى شَيْءٍ واحدٍ: قَبِيل، أُخِذ مِن قبائل الشَّجرة وهو أغصانها. وذكر ابن الهبَّاريَّة في كتابه «فلك المعاني» أنَّ القبائلَ مِن ولد عدنانَ مائتان وسبعٌ وأربعون قبيلةً، والبُطُون مِن ولده مئتان وأربعة وأربعون بطنًا، والأفخاذ خمسة عشر فخذًا غير أولاد أبي طالبٍ.
          فَصْلٌ: وقوله: ({لِتَعَارَفُوا}) قال مجاهدٌ: لِيُقال فلانُ ابنُ فلانٍ، وقرأ ابن عبَّاسٍ: لتعرفوا أنَّ، وأنكره بعضُ أهل اللُّغة، قال: لأنَّه خَلَقَهم ليتعارفوا في الأنساب، ولم يخلقهم ليعرفوا أنَّ أكرمَهم عند الله أتقاهم، وقيل: يجوز أن يكون معناه لأنَّ أكرمكم، وكَسْرُ (إنَّ) أحسَن لأنَّ الكلام تمَّ، ثمَّ أعلَمَهم بأرفعهم منزلةً عنده، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] كما رُويَ: ((إذا كانَ يومُ القيامةِ واستوى النَّاسُ في صَعيدٍ واحدٍ نادى منادٍ مِنْ قِبَل العرش لَيَعْلَمَنَّ اليومَ أهلُ الموقفِ مَن أَولَى بالكرم، ليقُم الْمُتَّقُون))، ثمَّ تلا رسول الله صلعم هذهِ الآية.
          فَصْلٌ: وقوله تعالى: ({تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ}) [النساء:1] قال عِكْرِمَةُ: المعنى واتَّقُوا الأرحام أن تقطعوها، وقال إبراهيمُ: هو مِن قولك أسألك بالله وبالرَّحِم، وهذا على قراءة الخفض، وأُنكر لأنَّه عطفٌ على الخافض مِن غير إعادة حرف الجر، وقيل: هو قَسَمٌ. و({رَقِيبًا}): حافظًا.
          وقوله: (وَمَا يُنْهَى عَنْه مِن دَعْوَى الجَاهِلِيَّة) سيأتي قريبًا له بابٌ مَعْقُودٌ.
          ثمَّ ذكر البخاريُّ في الباب خمسةَ أحاديثَ:
          3490- أحدها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُم، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ؟ قَالَ:فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ)، وقد سلف.
          والنَّبيُّ صلعم أتقى النَّاس، ويوسف نبيٌّ رسولٌ صِدِّيقٌ، وإبراهيم نبيٌّ رسولٌ خليلٌ، وإسحاق ويعقوب نبيَّانِ، فهم أربعة أنبياءٍ في نسقٍ لا يُعلم أربعةٌ في نسقٍ غيرُهم، نبَّه عليه ابن التِّين.
          3491- الحديث الثاني: حديث كُلَيبِ بن وَائِلٍ: (حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلعم زَيْنَبُ بنت أَّبِي سَلَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صلعم أَكَانَ مِنْ مُضَرَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ؟! مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ).
          3492- الحديث الثالث: حديثُ كُلَيبِ أيضًا: (حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلعم _وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ_ قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالْمُزَفَّتِ، وَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صلعم مِمَّنْ كَانَ؟ مِنْ مُضَرَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ؟ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ) ابن خُزَيْمَة بن مُدْرِكة بن إلياسَ بن مُضَر بن نزار بن مَعدِّ بن عدنانَ، ورُوِيَ أنَّه ◙ قال: ((لا يعلمُ مَا بعدَ عدنانَ إلَّا كاهنٌ أو مُتَخَرِّصٌ))، وقال ابن دِحْيةَ في «معجمه»: أجمع العلماء أنَّه ◙ إنَّما انتسبَ إلى عدنانَ ولم يتجاوزه، وأجمعوا أنَّ عدنانَ بلا شكٍّ مِن ولد إسماعيلَ.
          فَصْلٌ: في النَّهي عن سبِّ مُضَرَ: قال ابن حبيبٍ بإسناده إلى ابن عبَّاسٍ ☻ قال: ماتَ أُدَدُ والد عدنانَ، وعدنانُ ومَعدُّ ورَبِيعةُ ومُضَرُ وقيسُ عَيلانَ وتميمُ وأسدُ وضَبَّةُ على الإسلام، على مِلَّة إبراهيمَ، فلا تذكروهم إلَّا بما يُذكر به المسلمون، وعن سعيدِ بن المسيِّب أنَّه ◙ قال: ((لا تَسُبُّوا مُضَرَ فإنَّه كانَ مُسْلمًا على مِلَّة إبراهيمَ))، وعند الزُّبَيْر بن أبي بكرٍ مِن حديث / ميمون بن مِهْرَانَ عن ابن عبَّاسٍ ☻ مرفوعًا: ((لا تسبُّوا مُضَر ولا رَبِيْعَة فإنَّهما كانا مُسْلِمَين))، وقال ◙: ((إذا اختلفَ النَّاسُ فالحقُّ مَع مُضَر))، ورُوي أنَّه ◙ قال: ((إنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ اختارَ مِنَ العربِ هذا الحيَّ مِن مُضَرَ))، وسمع ◙ قائلًا يقول:
إنِّي امْرُؤٌ حِمْيَرِيٌّ حينَ تَنْسُبُنِي                     لا مِن رَبِيعَةَ أَجْدَادِي وَلَا مُضَرُ
          فقال: ((ذَلِكَ أَبعدُ لكَ مِن اللهِ ورسولِه))، وعند ابن الأثير: ((صارَ أَصْعَرَ لخدِّكَ وأَصْغَرَ لجدِّكَ))، ومِن حديث عَمْرو بن عُبَيدٍ عن الحسنِ عند الزُّبَيْر مرفوعًا: ((لا تسبُّوا مُضَرَ فإنَّه قد أسلَمَ)).
          فَصْلٌ: في اشتقاقِهِ: قال ابن الأنباريِّ: مُضَرُ يجوز أن يكون اشتقاقه مِن قولهم: ذهبَ دمُ فلانٍ خَضِرًا مَضِرًا أي: باطلًا، وعند القزَّاز: هو إتباعٌ، وعند الرُّشَاطيِّ عن إسماعيلَ بن القاسمِ قولهم: خَضِرًا مَضِرًا بمعنى نَضِرًا أبدلوا النُّون بميمٍ لقرب المخرَج، قال مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق: أمَّا أنا فلا أراه إلَّا مِن البياض إلى أنَّ دمه ذهب، خَضِرًا يعني ناعمًا، أي نَعِم فيه أصحابُهُ فلم يكدِّر عليهم، مُضَرًا أي أبيضَ لم يُقتل فيه أحدٌ فيحمرَّ دمه.
          وقال ابن سِيْدَه: سُمِّيَ مُضَرٌ لأنَّه كان مُولَعًا بشُرب اللَّبن الماضِر _أي: الحامض_ وقيل: سُمِّي بذلك لبياضه، وقال ابن دِحْيةَ: لأنَّه كان يَضِيرُ بالقلوب لحسنه وجماله وكان على دين إسماعيلَ، وعند التَّاريخيِّ عن ابن هَرْمَة: هذا البناءُ الذي في نَقْب الرَّوْحَاء هو قبر مُضَر بن نزارٍ، وعند القُتَبيِّ: هو مِن الْمَضِيرَة، وهو شيءٌ يُصنع مِن اللبن، والعربُ تُسَمِّي الأبيضَ أحمرَ، فلذلك قيل: مُضَرُ الحمراء، وقيل: بل أوصى له أبوه بقُبَّةِ حمراءَ، وعند العَسِكَرِيِّ هو أوَّلُ مَن سَنَّ حِدَاءَ الإبل وكان أحسنَ النَّاس صوتًا، فلمَّا وقع عن النَّجِيب فانكسرتْ يده كان يقول: وايداه وايداه.
          فَصْلٌ: وعِلمُ النَّسَب علمٌ جليلٌ يتعيَّنُ الاعتناء به، وقد صحَّ مِن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((تعلَّموا مِن أنسابكم ما تَصِلُون به أَرحامَكم)) قال الحاكم: صحيح الإسناد.
          وجعل ابن حزمٍ مِن فرضِهِ أن يُعلم أنَّ سيِّدَنا مُحَمَّدَ بنَ عبد الله القرشيَّ الهاشميَّ هو المبعوث إلى الجنِّ والإنسِ بدين الإسلام الذي كان بمكَّةَ ورحل منها إلى المدينة، فمن شكَّ فيه أهو قُرشيٌّ أو يمانيٌّ أو تميميٌّ أو عجميٌّ فهو كافرٌ إلَّا أن يكون جاهلًا فيتعلَّمَ، ومنه أن يعلم أنَّ الخلافةَ لا تجوزُ إلَّا في ولد فِهْر بن مالكِ بن النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وأن يعرفَ كلَّ مَن يلقاه بنسبٍ في رَحمٍ مُحَرَّمةٍ ليتجنَّبَ ما حُرِّم عليه، وأن يعرفَ كلَّ مَن يتَّصِلُ به برحمٍ يُوجِب ميراثًا أو صلةً أو نفقةً أو عقدًا أو حُكمًا.
          قال: ومِن فروض الكِفايةِ معرفةُ أسماء أُمَّهَاتِ المؤمنين وأكابر الصَّحابة مِن المهاجرين والأنصار الذين حبُّهم فرضٌ، فمن لم يعرف أنسابَ الأنصار لم يعرف إلى مَن يُحْسِنُ ولا عمَّن يتجاوز، وهذا حرامٌ، ومعرفة مَن يَجِبُ له حقٌ في الخُمُس مِن ذوي القُربى، ومعرفة مَن يحرم عليه الصَّدَقةُ ممن لا حقَّ لهُ فيهِ، وكلُّ ذلك جزءٌ مِن عِلم النَّسَب، وقد صحَّ بطلان قولِ مَن قال: إنَّ علم النَّسَب علمٌ لا يَنفعُ وجَهْلٌ لا يَضُرُّ، وقد أقدم قومٌ فنسبوه إلى رسول الله صلعم وهو باطلٌ، وقد كان ◙ يتكلَّمُ في النَّسَب بقوله: ((نحنُ بَنو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ))، وذكرَ أفخاذ الأنصار إذ فاضلَ بينهم، فقدَّمَ بني النَّجَّار ثمَّ بني عبد الأَشْهَلِ ثمَّ بني الحارث ثمَّ بني سَاعِدةَ، وذكر بني تميمٍ وبني عامر بن صَعْصَعةَ وغَطَفَان، وأخبر أنَّ مُزَيْنَة وجُهَيْنَة وأسلمَ وغِفَارَ أَخْيَرُ منهم يومَ القيامة، وأخبر أنَّ بني العَنْبر بن عَمْرو بن تميمٍ مِن ولد إسماعيلَ، ونسب الحَبَشَ إلى أَرْفِدَةَ، ونادى قُرَيْشًا بطنًا بطنًا، وكلُّ هذا يُبطل ما رُويَ عن بعض الفقهاء مِن كراهية الرَّفع في الأنساب إلى الآباء مِن أهل الجاهليَّة.
          ثمَّ أسند عن عُمَرَ ☺: ((تعلَّمُوا مِن أَنسابِكُم مَا تَصِلُون بهِ أَرحَامَكُم))، وأخرجه أبو نُعَيمٍ مِن حديث العَلاءِ بن خَارِجَةَ المدنيِّ مرفوعًا، وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ: قلت: يا رسول الله، من أنا؟ قال: ((أَنْتَ سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ مالكِ بنُ أُهَيْبِ بنِ عبدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ، مَن قَالَ غَيرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ))، وكان عَمْرُ وعُثْمَانُ وعليٌّ به علماء. وقوله ◙ لحسَّانَ: ((اذهبْ إلى أبي بكرٍ ليُخلِّصَ لَكَ نَسَبِي)) يُكَذِّبُ قولَ مَن نسب إليه أنَّ عِلم النَّسَب علمٌ لا يَنفع لأنَّه لا يَصحُّ، وكلُّ ما ذكرناه صحيحٌ مشهورٌ، وما فرضَ عُمَر وعُثْمَانُ وعليٌّ الدواوين إذ فرضوه إلَّا على القبائل، ولولا عِلْمهم بالنَّسَب ما أمكنهم ذلك، وكان ابن المسيِّب وابنه مُحَمَّدُ والزُّهريُّ مِن أعلم النَّاس بالأنساب في جماعةٍ مِن أهل الفضل والفقه والإمامة كالشَّافعيِّ وأبي عُبَيدٍ، ولذا قال ابن عبد البرِّ: لَعَمْرِي ما أنصف القائل: أنَّه لا ينفع لأنَّه بيِّنٌ نفعُهُ لأشياءَ، منها: قوله ◙: ((كُفرٌ باللهِ ادِّعاءُ نسبٍ لَا يُعْرَف، وكُفرٌ باللهِ تبرُّؤٌ مِن نَسبٍ وَإِنْ دَقَّ))، ورُويَ عن أبي بكرٍ مثله، وقال ◙: ((مَن ادَّعى إلى غير أبيهِ أو انْتَمَى إِلى غَيْرِ مَوالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ))، وقد رُويَ مِن الوجوه الصِّحاح عن رسول الله صلعم ما يدلُّ على معرفتِه بأنساب العرب.
          قلت: وفي التِّرْمذيِّ مصحَّحًا مِن حديث عبد الله بن عَمْرِو: خرج رسولُ الله صلعم وفي يده اليمنى كتابٌ وفي اليسرى كتابٌ، فقال: ((هَذَا كِتَابٌ مِن ربِّ العَالَمِينَ فِيه أسماءُ أَهلِ الجَنَّة وأَسماءُ آبائهم وقبائلهم))، وأخرجه الرُّشَاطيُّ مِن حديث ابن عَمْرَ بمثله وفيه: ((أَسمَاؤُهم وَأَنسَابُهم)).
          فَصْلٌ: ذُكِرَتْ في الحديث النَّهيُ عن الدُّبَّاء وغيره لتأتي بالحديث على وجهه، وقد أسلفنا بيان ذلك ولا بأس بإعادته لبُعد العهد به.
          فـالدُّبَّاءُ جمع دُبَّاءَة وهي: القَرْعة وهي ممدودةٌ في أشهر اللُّغَات، وذكر القزَّاز في «جامعه» أيضًا أنَّها قُصِرت في لغةٍ، و(الحَنْتَمِ) قال أبو عُبَيدٍ: جَرَارٌ خُضرٌ كانت تُحْمَل فيها إلى المدينة الخمرُ، و(الْمُقَيَّر) هو المُزَفَّت وهو ما طُلِيَ داخله بالزِّفْت، ولم يذكر هنا النَّقِير وهو خشبٌ كانوا ينقرونه فيجعلون منه أوعيةً يَنْتَبِذُون فيها؛ وعِلَّة النَّهي إسراعُ الإسكار في هذه الأمور، وقيل: لإضاعة المال ثمَّ نُسِخَ.
          3493- 3494- الحديث الرابع: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الِإسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هذا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَيْنِ: الذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْه).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ بتمامه في الفضائل، وفي الأدب بقِصَّة ذي الوجهين.
          الشرح: قوله: (النَّاسُ مَعَادِنٌ) يوضِّحه الحديث الأخر: ((الناسُ معادن كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)) وجه التمثيل اشتمال المعادن على جواهر مختلفةٍ مِن نفيسٍ وخسيسٍ، كذلك النَّاس مَن كان شريف الأصل في الجاهليَّة لم يزده الإسلامُ إلَّا شرفًا، فإنْ تفقَّهَ وصل إلى غاية الشَّرف، وكانت لهم أصولٌ في الجاهليَّة يَسْتَنْكِفُون عن كثيرٍ مِن الفواحش، قال الزُّبَيْر: كُنَّا في الجاهليَّة في ملك قابط تكفينا أحلامُنا فبقيت تلك الأخلاق في إيمانهم مع ما زادهم الإسلام.
          وقوله: (أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً) يعني الإمارة؛ مَن نالها مِن غير مسألةٍ أُعِينَ عليها، ومَن نالها عن مسألةٍ / وُكِلَ إلى نفسه، وهذا في الأكثر، وربَّما أخذها مَن هو أهلٌ لها مِن غير أن يُعطاها، أخذ الرَّايةَ خالدٌ مِن غير إمرةٍ، وقال ◙: ((أَخَذَها سَيفٌ مِن سُيوف اللهِ))، ورُوي عن عُمَرَ أنَّه قال: لأنْ أقدَّمَ فتُضْرَب عنقي _إلَّا أن تتغيَّر لي نفسي عندَ الموت_ أحبُّ إليَّ مِن أَلِيَ على قومٍ فيهم أبو بكرٍ.
          وقوله: (تَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسَ) وفي روايةٍ: ((مِنْ خَيْرِ النَّاسِ)) وهو لبيان جنس الخير، كأنَّهُ قال: تجدون أكره النَّاس في هذا الأمر مِن خيارهم، ويصحُّ على مذهب الكوفيِّين أنَّها زائدةٌ، والكراهةُ بسبب عِلمه بصعوبة العدل فيها والمطالبة في الأخرى، وقال الخطَّابيُّ: معناه إذ وقعوا فيها لم يَجُز أن يكرهوها لأنَّهم إذا أقاموا فيها كارهين ضيَّعُوها.
          وقوله: (خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَاُرُهْم فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا)، ومثله: ((مَن يُردِ اللهُ بِهِ خَيرًا يفقِّهْهُ في الدِّين))، وقال عليٌّ: النَّاس ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ يميلون مع كلِّ ناعِقٍ.
          3495- 3496- الحديث الخامس: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أيضًا: (النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هذا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ، النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لهذا الشَّأْنِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ).
          الشرح: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا.
          وقوله: (النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَأْنِ) يعني في الخلافة لأنَّ النَّاس في الجاهليَّة كانت قُرَيْشٌ رؤوسهم، ولذلك قالوا يوم السَّقِيفة: نحن الأمراء.
          فيه أنَّ مِن شروط الإمامة الكبرى أن يكونَ المتولِّي قُرشيًّا، وهو إجماعٌ ولا عِبْرةَ بمن شَذَّ.
          وقوله: (وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ) لَمَّا كانت قُرَيْش عَندَت عن الإسلام أباه أكثر النَّاس، ومالت معهم مَن قَرُبَتْ داره وامتنع مَن بَعُدَتْ داره، فلمَّا فتح مكَّةَ وأسلموا إلَّا مَن قُتِل منهم دخل النَّاس في دين الله أفواجًا، ثمَّ حُورب مِن سواهم ففتح الله على رسوله وعلى المؤمنين بعده، وقيل: معناه الإخبار عنهم فيما تقدَّمَ مِن الزَّمان أنَّهم لم يزالوا متبوعين، وكانت العرب تقدِّمُ قُرَيْشًا.
          وقوله: (وتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهم كَرَاهِيَةً) قيل: أراد إذا وقعوا في الإمارة عن رغبةٍ وحرصٍ زالت عنهم فضيلةُ حسنِ الاختيار، وقيل: أراد أنَّ خيارَ النَّاس مَن يكره الولاية، حتَّى إذا وقع فيها زال معنى الكراهة فلم يَجُز لهم أن يكرهوها؛ لأنَّهم إذا قاموا بها على كُرهٍ ضيَّعُوها.