التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب الإكراه

          ░░89▒▒ كِتَابُ الإِكْرَاهِ
          وَقَوْلِ اللهِ ╡: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النَّحل:106] إلى قَوْلِهِ: {عَظِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عِمْرَان:28] وَهْيَ تَقِيَّةٌ، وَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} الآية [النساء:98]. وَقَالَ {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} إِلَى قَوْلِهِ: {نَصِيرًا} [النساء:75] فَعَذَرَ اللهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ مِن تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ؛ وَالْمُكْرَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غيرَ مُمْتَنِعٍ مِن فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ.
          وَقَالَ الحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ ♥ وَالشَّعْبيُّ وَالحَسَنُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ).
          6940- ثمَّ ساقَ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ).
          الشَّرحُ: أَثَرُ الحَسَنِ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن وَكِيْعٍ عن هشامٍ عن قَتَادَةَ عنه. وحديثُ: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) سَلَفَ في مواضِعِه مُسنَدًا [خ¦54] [خ¦2529] [خ¦3898] وذَكَرَ أهلُ التَّفسيرِ أنَّ الآيةَ الأُولى نزلتْ في عمَّارٍ وأصحابِه مِن أهل مكَّةَ حين كانوا مُكرَهين وكانوا آمنوا، فكتب إليهم بعضُ أصحابِهم بالمدينة: لستُم منَّا حتَّى تهاجِرُوا إلينا، وكان فيهم عمَّارٌ، فخرجوا يريدون المدينةَ فأدركتْهم قُرَيشٌ في الطَّريق فَفَتَنُوهُم على الكُفْرِ، فكفَرُوا مُكرَهين فَنَزَلت.
          وقال أبو جَعْفَرٍ: قال أهلُ التَّفسير: إنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في عمَّارَ بن ياسِرٍ لأنَّه قارفَ بعضَ ما ندبوه إليه. قيل: ولَمَّا أُخِذَ عمَّارٌ إلى المُغِيرةِ عذَّبَه حتَّى نالَ مِن رسولِ اللهِ صلعم، فلمَّا أتاه قال: ((أفلَحَ أبو اليَقْظَان)) قال عمَّارٌ: ما أفلَحَ ولا نَجَحَ؛ ما ترَكَني آلُ المُغِيرةِ حتَّى نلتُ منكَ، قال: ((كيفَ تَجِدُ قلبَكَ؟)) قال: مُطْمَئنًَّا بالإيمان، فَنَزلت.
          قال الدَّاوُدِيُّ: {مَنْ شَرَحَ بِالكُفْر صَدْرًا} أي مَن ماتَ على ذلك، وقال غيرُه: مَن فَتَحَ صدْرَه لِقَبولِه. ووقع في «شرح ابن التِّين» تخليطٌ في الآيتين بعدَه، وما أوردناه هو الصَّواب.
          وقام الإجماع على مَن أُكرِهَ على الكُفْر حتَّى خَشِيَ على نفْسِه القَتْلَ أنَّه لا إثمَ عليه إن كفَرَ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تَبِينُ منه زوجتُهُ ولا يُحكَم عليه بحكم الكُفْرِ، هذا قولُ مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعِيِّ.
          وقال مُحَمَّدُ بن الحَسَن: إذا أظهرَ الشِّرْكَ كان مُرتدًَّا في الظَّاهرِ وهو فيما بينَه وبين الله على الإسلامِ، وتَبِينُ منه امرأتُهُ ولا يُصلَّى عليه إن ماتَ ولا يَرِثُ أباه إن ماتَ مُسلمًا. وهذا قولٌ تُغنِي حكايتُه عن الرَّدِّ عليه لِمُخَالفَتِه للآياتِ المذكورة في أوَّلِ هذا البابِ.
          وقالت طائفةٌ: إنَّما جاءتِ الرُّخْصَةُ في القولِ، وأمَّا في الفِعْلِ فلا كالإكراه على السُّجودِ لغيرِ اللهِ والصَّلاةِ لِغيرِ القِبلةِ أو قَتْلِ مُسلمٍ أو ضرْبِه أو أكْلِ مالِه أو الزِّنا أو الشُّرْبِ أو أكْلِ الخِنْزير أو أن يُصَلِّيَ لِغَيْرِ القِبلَةِ، رُوِي هذا عن الحَسَنِ البصريِّ، وهو قولُ الأَوْزَاعِيِّ وسُحْنُون: قال الأَوْزَاعِيُّ: إذا أَكرَهَ الأسيرَ على الشُّرْبِ لا يَفعلُ وإن قَتَلَه. قال إسماعيلُ: حدَّثنا نَصْرُ بن عليٍّ حدَّثنا عبدُ الأعلى عن عوفٍ عن الحَسَنِ: أنَّه كان لا يجعلُ في النَّفْسِ الَّتي حرَّمَ اللهُ التَّقِيَّةَ. وقال مُحَمَّدُ بن الحَسَن: إذا قيلَ للأسير: اسجُدْ لهذا الصَّنَمِ وإلَّا قتلناك، فقال: إنْ كان الصَّنمُ مُقابِلَ القِبلةِ فليسجدْ، وتكونُ نِيَّتُه لله، وإن كان لغيرِها فلا وإنْ قتلوه.
          وقالت طائفةٌ: الإكراهُ في الفِعْلِ والقولِ سواءٌ إذا أسرَّ الإيمانَ، رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بن الخطَّاب ومَكْحُولٍ، وهو قولُ مالكٍ وطائفةٍ مِن أهلِ العراق. ورَوَى ابنُ القاسمِ عن مالكٍ أنَّه إن أُكْرِهَ على شُرْبِ الخَمْرِ أو تَرْكِ الصَّلاةِ والإفطارِ في رمضانَ فالإثمُ عنده مرفوعٌ، إلَّا أنَّه لا يجوز عند مالكٍ وعامَّةِ العلماء أن يَقتُلَ غيرَه ولا يَنتَهِكَ حُرْمَتَه ولا يَظلِمَه ولا يَفعلَ الزِّنا وإنْ أُكرِه على ذلك.
          قال إسماعيلُ: وقولُ مَن جَعَلَ التَّقِيَّةَ في القولِ ما يشبهُ ما نزل مِن القرآن في ذلك؛ لأنَّ الذين أُكرهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جُعِلَ كأنَّه لم يكن؛ لأنَّ الكلام ليس يؤثِّر بأحدٍ أثرًا في نفسٍ ولا مالٍ، وأفعالُ الأبدانِ ليست كذلك لأنَّها تؤثِّرُ في الأبدانِ والأموالِ، ولا يجوز لِأَحَدٍ أن يُنْجِي نفْسَهُ مِن القَتْلِ بأن يَقتُلَ غيرَه ظلمًا وإنْ أُكرِهَ على ذلك.
          وقد أجمعَ العلماء على أنَّ مَن أُكرِهَ على الكُفْرِ فاختارَ القَتْلَ أنَّه أعظمُ لأجْرِه عند الله، ممَّن اختار الرُّخصةَ، ويأتي أوَّلَ البابِ بَعْدُ. وقال الأَبْهَرِيُّ: لا يجوزُ لِأَحدٍ أن يُكْرَهَ على هَتْكِ حُرْمةِ آدميٍّ؛ لأنَّ حُرمتَه ليست بأوكدَ مِن حُرْمةِ الآخَرِ.
          فَصْلٌ: واختلفوا في طلاقِ المُكْرَه، فذكر ابنُ وَهْبٍ عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وعليٍّ وابنِ عبَّاسٍ ♥ أنَّهم كانوا لا يرون طلاقَه شيئًا، وَذَكَرَهُ ابنُ المنذرِ عن ابنِ الزُّبَير وابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وعَطَاءٍ وطَاوُسٍ والحَسَنِ وشُرَيحٍ والقاسمِ ومالكٍ والأَوْزَاعِيِّ والشَّافعِيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثورٍ، وظاهرُ ما في البُخَارِيِّ عن ابنِ الزُّبَيْرِ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ بالنِّسبَةِ إلى السُّلطانِ.
          وأجازتْ طائفةٌ طَلَاقَه، رُوِيَ ذلك عن الشَّعْبيِّ والنَّخَعِيِّ وأبي قِلابةَ والزُّهْرِيِّ وقَتَادَةَ، وهو قولُ الكوفيِّين. وفيها قولٌ ثالثٌ قاله الشَّعْبيُّ: إن أكرهه اللُّصوصُ فليس بطلاقٍ، وإنْ أكرهَهُ السُّلطانُ فهو طلاقٌ. وفسَّره ابنُ عُيَيْنَةَ فقال: إنَّ اللِّصَّ يُقْدِمُ على قتْلِه بخلافِه.
          واحتجَّ الكوفيُّون بقولِه ◙: ((ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وهزلُهنَّ جِدٌّ: الطَّلاقُ والعَتَاقُ والنِّكاح)) والهازلُ لم يقصِدْ إيقاعَهُ ولَزِمَهُ فالمُكرَهُ كذلك. واحتجَّ عليهم الأوَّلون فقالوا: الفرقُ أنَّ الهازلَ قاصدُ اللَّفْظِ مؤْثِرٌ له فلَزِمَهُ بخلافِه فإنَّه لم يُؤثِرْهُ ولا اختارَه، ووجدنا الطَّلاقَ لا يلزَمُ إلَّا بلفظٍ ونيَّةٍ، والمكرَهُ لا نِيَّةَ له، إنَّما طلَّقَ بِلِسَانِه لا بِقَلْبِه، فلمَّا رفع الله عنه الكُفْرَ الَّذي تكلَّم به مكرَهًا ولم يعتقدْهُ وجَبَ رَفْعُ الطَّلاقِ لِرَفْعِ النِّيَّة فيه.
          وقولُ مالكٍ هو إجماعُ الصَّحابةِ ولا مُخَالِفَ منهم، وأجمع المسلمونَ على أنَّ المشركينَ لو أكرَهُوا رَجُلًا على الكُفْرِ بالله بلسانِه / وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمانِ وله زوجةٌ حُرَّةٌ مسْلمةٌ أنَّها لا تحرُمُ عليه ولا يكون مُرتدًّا بذلك، والرِّدَّةُ فُرْقَةٌ بائنةٌ، فهذا يَقضي على اختلافِهم في المكرَه.
          فَصْلٌ: واختلفوا في حدِّ الإكراهِ، فرُوِيَ عن عُمَرَ ☺ أنَّه قال: ليس الرَّجُلُ أميرًا على نفْسِه إذا أَخَفْتَهُ أو أَوْثَقْتَهُ أو ضَرَبْتَهُ. وقال ابنُ مَسْعُودٍ: ما كلامٌ يدرأ عَنِّي سَوطينِ إلَّا كنتُ متكلِّمًا به. وقال شُرَيحٌ والنَّخَعِيُّ: القَيْدُ كُرْهٌ والوعيدُ كُرْهٌ والسَّجْنُ كُرْهٌ. قال ابنُ سُحْنُون: وهذا كلُّه عند مالكٍ وأصحابِه كُرهٌ، والضَّرْبُ عندَهم كُرْهٌ، وليس عندهم في الضَّربِ والسَّجْنِ توقيتٌ إنَّما هو ما كان يُؤلِمُ مِن الضَّرْبِ وما كان مِن سَجْنٍ يدخُلُ منه الضِّيقُ على المكرَه قلَّ أو كَثُر، فالضِّيق يدخلُ في قليلِ السَّجْن.
          وإكراهُ السُّلطانِ وغيرِه إكراهٌ عند مالكٍ. وتناقضَ أهل العراق فلم يجعلوا القَيْد والسَّجْنَ إكراهًا على شُرْبِ الخَمْرِ وأَكْلِ المَيْتَةِ لأنَّه لا يُخاف منه التَّلَفُ، وجعلوه إكراهًا في إقرارِه: عندي لفلانٍ ألفُ درهمٍ. قال ابن سُحْنُون: وفي إجماعِهم على أنَّ الألمَ والوجعَ الشَّديدَ إكراهٌ ما يدلُّ على أنَّ الإكراه يكون مِن غير تَلَفِ نَفْسٍ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حزمٍ: الإكراهُ قِسمانِ: إكراهٌ على كلامٍ وعلى فعلٍ.
          فالأوَّلُ: لا يجبُ به شيءٌ، كالكُفْرِ والقَذْفِ والإقرارِ بالنِّكاحِ والرَّجْعَةِ والطَّلاقِ والبيعِ والابتياعِ والنَّذْرِ والأَيمانِ والعِتقِ والهِبَةِ وغيرِ ذلك؛ لأنَّه في قولِه ما أُكْرِهَ عليه حاكٍ اللَّفظَ ولا شيءَ على الحاكي قطعًا، ومَنْ فرَّق بين الأمرين فقد تناقضَ قولُه، والأعمالُ بالنِّيَّات فصحَّ أنَّ مَن أُكرِهَ على قولٍ ولم ينْوِه مختارًا له فإنَّه لا يلزمُه.
          والثَّانِي قِسمان: كلُّ ما تبيحُه الضَّرورةُ كالأكْلِ والشُّرْبِ فهذا يبيحُه الإكراهُ لأنَّ الإكراهَ ضرورةٌ، فمن أُكْرِهَ على شيءٍ مِن ذلك فلا شيءَ عليه فإنَّه أتى مباحًا له إتيانُه، والثَّاني: ما لا تُبيحُه كالقَتْلِ والجِرَاح والضَّرْبِ وإفسادِ الأموالِ فهذا لا يُبيحُه الإكراهُ، فمن أُكرِهَ على شيءٍ منه لَزِمه القَوَدُ والضَّمَانُ لأنَّه أتى محرَّمًا عليه إتيانُه.
          والإكراهُ هو كلُّ ما سُمِّيَ في اللُّغةِ إكراهًا وعَرَفْنَا بالحسِّ أنَّه إكراهٌ كالوعيدِ بالقَتْلِ فيمن لا يؤمَنُ منه إنفاذُه، وبالضَّرْبِ والسَّجْنِ وبإفسادِ المالِ، والوعيدُ في مُسْلِمٍ غيرَه بالقَتْلِ أو ضَرْبٍ أو سَجْنٍ أو إفسادِ مالٍ؛ لقولِه ◙: ((المسلمُ أخو المسلمٍ لا يَظْلِمُه ولا يُسْلِمُه)).
          فمن أُكرِهَ على شُرْبِ خمرٍ أو أكْلِ خِنْزيرٍ أو ميتةٍ أو دمٍ أو بعضِ المحرَّمات أو أكْلِ مالِ مُسْلمٍ أو ذِمِّيٍّ فمباحٌ له أكلٌ أو شُرْبٌ ولا شيءَ عليه، لا حدَّ ولا ضمانَ لِقولِه تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] فإنْ كان المكرَهُ على أكْلِ مالِ مُسْلمٍ له مالٌ حاضرٌ معه فعليه قيمةُ ما أَكَلَ، فإنْ لم يكنْ له مالٌ حاضرٌ فلا شيءَ عليه فيما أَكَلَ.
          فإنْ قيل: فهلَّا ألحقتُم القَتْل والزِّنا والجِرَاحَ والضَّرْبَ وإفسادَ المالِ بهذا الاستدلال؟ قلنا: النَّصُّ لم يُبِحْ له قطُّ أن يَرفَعَ عن نفْسِه ظلمًا بظلمِ غيرِه فيمن لم يَتَعَدَّ عليه، وإنَّما الواجبُ عليه دفْعُ الظَّالِمِ وقتالُه بقولِه تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقال رسولُه صلعم: ((مَن رأى منكم مُنكرًا فليغيِّرْهُ بِيَدِه إن استطاعَ وإلَّا فَبِقَلْبِهِ)) فصحَّ أنَّه لم يُبَحْ له قطُّ العونُ على الظُّلْمِ لا لضرورةٍ ولا لغيرِها، وإنَّما فُسِحَ له إنْ عَجَزَ ألَّا يغيِّرَ بيدِه ولا بلسانِه، وبقيَ عليه التَّغييرُ بقلْبِه ولا بدَّ، والصَّبرُ لقضاء الله فقط، وأُبيحَ له في المَخْمَصَةِ بِنَصِّ القرآن الأكلُ والشُّرْبُ عند الضَّرورةِ.
          فلو مُسِكَتِ امرأةٌ حتَّى زُنِيَ بها، أو أُمْسِكَ رَجُلٌ وأُدْخِلَ ذَكَرُه في فَرْجِ امرأةٍ فلا شيءَ عليهما، انتشرَ أم لا، حصلَ الإمْنَاءُ أم لا؛ لأنَّ الإمْنَاءَ فِعْلُ الطَّبيعةِ وكذا الانتشارُ، أَحَبَّ أم كَرِه، لا صُنْعَ له في ذلك.
          ومَن كان في سَفَرِ معصيةٍ ولم يجدْ شيئًا يأكُلُه إلَّا حرامًا لم يَحِلَّ له أكْلُه حتَّى يتوبَ فيأكُلَ حلالًا، فإنْ لم يَتُبْ أَكَلَ حرامًا، وإن لم يأكلْ فهو عاصٍ لله، وهذا قولُ الشَّافعِيِّ وأبي سُلَيْمان، وقال مالكٌ: يأكلُ، وتأوَّلَ قولَه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة:173] أي غيرَ باغٍ في الأكْلِ ولا عادٍ فيه، وقالوا: قد قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] وهو إن لم يأكُلْ قَتَلَ نفْسَه.
          وقال الحَنَفيُّون: لا يُلْزِمُ الإكراهُ على البيعِ والشِّراء والإقرارِ والهِبَةِ والصَّدقَةِ ولا يجوز عليه شيءٌ مِن ذلك، فإنْ أُكْرِهَ على النِّكاحِ أو الطَّلاقِ أو الرَّجعةِ أو العِتق أو النَّذْرِ أو اليمينِ لَزِمَهُ كلُّ ذلك وقُضِيَ به عليه وصحَّ كلُّ ذلك ولزِمَ.
          رُوِّينا مِن طريقِ حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ حدَّثنا عبدُ الملِكِ بنُ قُدَامَة الجُمَحِيُّ، حدَّثنا أَبِي أنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِحَبْلٍ يَشْتَار عَسَلًا فحلفتِ له امرأتُه لتَقْطَعَنَّ الحبْلَ أو لَيُطَلِّقَنَّها ثلاثًا، فطلَّقَها ثلاثًا، فلمَّا خَرَجَ أَتَى عُمُرَ ☺ فأخبرَهُ، فقال: ارجِعْ إلى امرأتِكَ فإنَّ هذا ليس طلاقًا.
          ومِن طريقِ حمَّادٍ عن حُمَيدٍ عن الحَسَنِ قال: أَخَذَ رجلًا أهلُ امرأتِه فإنْ لم يَبْعَثْ بِنَفقتِها إلى شهْرٍ فهي طالِقٌ، فجاء الأَجَلُ ولم يَبْعَثْ شيئًا فخاصموه إلى عليٍّ ☺، فقال: اضطهدتموه حتَّى جَعَلَها عليه، وردَّها عليه. ومِن طريقِ الحَجَّاجِ بن مِنْهَالٍ حدَّثنا هُشَيمٌ حدَّثنا عبدُ الله بن طَلْحَة الخُزَاعيُّ حدَّثنا أبو يَزِيدَ المَدِينيُّ عن ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه قال: ليس لِمُكرَهٍ طلاقٌ. وصحَّ أيضًا عن ابنِ عُمَرَ ☻ مِن طُرُقٍ أنَّه لم يُجِزْ طلاقَ المكرَه، ومِن طريقِ ثابتٍ الأعرجِ فقال: سألتُ كلَّ فقيهٍ بالمدينةِ عن طلاق المكرَه فقالوا: ليس لمكرَهٍ طلاقٌ، ثمَّ أتيتُ ابنَ الزُّبَيرِ وابنَ عُمَرَ ☻ فردَّا عليَّ امرأتي، وكان قد أُكرِهَ على طلاقِها ثلاثًا. وصحَّ هذا أيضًا عن جابِرِ بن زَيْدٍ والحَسَنِ وعَطَاءٍ وطَاوُسٍ وشُرَيحٍ وعمرَ بنِ عبد العزيز، وهو قولُ مالكٍ ومعه داودُ وجميع أصحابِه.
          وصحَّ إجازةُ طلاقِ المكرَه عن ابنِ عُمَرَ، ورُوِيَ عن عُمَرَ وعليٍّ ولم يَصِحَّ عنهما، وصحَّ عن الزُّهْرِيِّ وقَتَادَةَ وإبراهيمَ وسَعِيدِ بن جُبَيرٍ. واحتجَّ المجيزُ بعمومِ قولِه تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة:230] وهو تمويهٌ؛ لأنَّ الَّذي قال هذا قال أيضًا: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] والمكرَهُ لم يُطلِّق / قطُّ، وكان ينبغي أن يحتجُّوا في إجازةِ بيْعِ المكرَهِ بعمومِ قولِه تعالى: {وَأَحَلَّ الله البَيْعَ} [البقرة:275] فإن قالوا: البيعُ لا يكونُ إلَّا عن تراضٍ. قلنا: والطَّلاقُ لا يكون إلَّا عن رِضا مِن المطلِّق.
          واحتجَّوا أيضًا بأخبارٍ فاسدةٍ منها ما رُوِّيناه مِن طريقِ أبي عُبَيدٍ حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ، حدَّثنا الغازي بنُ جَبَلَة الجُبْلَانيُّ عن صَفْوَانَ بن عِمْرَانَ الطائيِّ: أنَّ رجُلًا جَعلتِ امرأتُه سِكِّينًا في حَلْقِه، وقالت: طلِّقْنِي ثلاثًا أو لأذْبَحَنَّك، فناشدَها فأبتْ فطلَّقَها ثلاثًا، ثمَّ ذَكَرَ ذلك لِرسولِ الله صلعم فقال: ((لا قيلُولَةَ في الطَّلاقِ)) ورُوِّيناه أيضًا مِن طريقِ نُعَيمِ بنِ حمَّادٍ عن بقيَّةَ عن الغازي عن صَفْوَانَ عن رَجُلٍ مِن الصَّحابةِ عن رسولِ الله صلعم. وهذا كلُّه لا شيءَ لأنَّ إسماعيلَ وبقيَّةَ ضعيفان، والغازي مجهولٌ وصَفْوَانُ ضعيفٌ، ثمَّ هو مُرْسلٌ.
          قلت: صَفْوَانُ ذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان في «ثقاتِه» وكذا الغازي، وعَّرَفه بِرِوايتِه عن جملةٍ مِن الصَّحابة، وابنُه أبو هِشَامِ بنِ الغازي روى عنه ابنُه وأهلُ الشام، وبَقِيَّةُ عابوا عليه تدليسَه وروايتَه عن المجاهيل، وإسماعيلُ رَوَى هنا عن الشَّاميِّينَ، وابنُ حزمٍ وغيرُه يَحتجُّ به في مِثل ذلك، وليس كما قال مِن إرسالِه فإنَّه قال: عن رَجُلٍ مِن الصَّحابةِ ولا تضرُّ الجهالةُ به ولا يُسمَّى هذا مُرْسَلًا.
          قال: واحتجَّوا أيضًا بحديثٍ مِن طريقِ مُطَيَّنٍ عن حسينِ بن يُوسُفَ السَّمْتيِّ _وهو مجهولٌ_ عن مُحَمَّدِ بنِ مَرْوانَ _وهو مجهولٌ_ عن عَطَاءِ بنِ عَجْلانَ _وهو مذكورٌ بالكذِبِ_ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ رَفَعه: ((كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلَّا طلاقَ المعتوهِ المغلوبِ على عقلِه)) وينبغي أيضًا أن يكون _على رأيِهم_ غيرَ صحيحٍ لأنَّهم يقولون: إذا خالفَ الرَّاوي روايتَه دلَّ على سقوطِ روايتِه؛ لأنَّ الاعتبارَ عندَهم برأيِه لا بروايتِه، وهنا رأيْنا عبدَ الرَّزَّاق قد رَوَى عن ابنِ المبارَك عن الأَوْزَاعِيِّ عن يَحيى بن أبي كَثِيرٍ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ ☻ لم يَرَ طلاقَ المُكرَهِ.
          قال: واحتجُّوا بالآثارِ الَّتي فيها: ((ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وهزلُهنَّ جِدٌّ)) وهي كلُّها واهيةٌ لا تصحُّ. واعترضوا على ما رُوِّيناه مِن طريقِ الرَّبيعِ بن سُلَيْمان المؤذِّن عن بِشْرِ بن بكرٍ عن الأَوْزَاعِيِّ عن عَطَاءٍ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ قال رسولُ الله صلعم: ((عُفِيَ لأُمَّتي عن الخطأ والنِّسيانِ وما اسْتُكْرِهوا عليه)) فإنْ قالوا: سأل عبدُ الله بنُ أحمدَ أباه عن هذا الحديث فقال: إنَّما رواه شيخٌ عن الوليدِ بن مُسلمٍ عن الأَوْزَاعِيِّ ومالكٍ: قال مالكٌ: عن نافِعٍ عن ابن عُمَرَ ☻، وقال الأَوْزَاعِيُّ: عن عَطَاءٍ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻، كلاهما قال عن رسولِ الله صلعم. فقال أحمدُ: وهذا كذبٌ باطلٌ ليس يُروَى إلَّا عن الحَسَنِ عن رسولِ الله صلعم.
          قال ابن حزمٍ: فاعجَبُوا للعَجَبِ؛ إنَّما كذَّبَ أحمدُ مَن رَوَاهُ مِن طريقِ مالكٍ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ، ومِن طريقِ الوليدِ عن الأَوْزَاعِيِّ عن عَطَاءٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، وصَدَقَ أحمدُ في ذلك وهذا لم يأتِ قطُّ مِن طريق مالكٍ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ ولا مِن طريقِ الوليدِ المذكورة، إنَّما جاء مِن طريقِ بِشْرٍ كما سَلَفَ، ومَن بدَّل الأسانيدَ فقد أخطأَ أو كَذَبَ إن تعمَّد ذلك. وقد أسلفْنَا في الطَّلاقِ مناقشةَ ابنِ حزمٍ في ذلك. قال: ثمَّ العَجَبُ كلُّه منهم في هذا وأنَّه مُرْسَلٌ وهم يحتجُّون في هذهِ المسألةِ نفْسِها بما نَزَلَ في هذا عن المرسَلِ، ثمَّ قالوا: كيف يُرفَعُ عن النَّاسِ ما استُكرِهوا عليه وقد وقع منهم، وهذا اعتراضٌ على صاحبِ الشَّرع. فَرْعٌ: قال: ومَن أُكرِهَ على سجودٍ لِصَنَمٍ أو صليبٍ فلْيسجُدْ لله مبادِرًا إلى ذلك ولا يبالِي في أيِّ جِهةٍ كان ذلك الصَّنمُ أو الصَّليبُ، قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة:115] ولا فرْقَ بين إكراهِ السُّلطانِ أو اللُّصوصِ أو غيرِهما، وقد سَلَفَ ما فيه.
          فَرْعٌ: قال أيضًا: وقال الحَنَفيُّون: الإكراهُ بضرْبِ سَوطٍ أو سَوطينَ أو حبْسِ يومٍ أو يومين ليس إكراهًا، قال: وقد رُوِّينا عَكْسَ مقالتِهم مِن طريقِ شُعْبَةَ حدَّثَنا أبو حيَّان التَّيمِيُّ عن أبيه قال: قال لي الحارثُ بن سُوَيدٍ: سمعتُ ابنَ مَسْعُودٍ ☺ يقول: ما مِن ذي سلطانٍ يريدُ أن يكلِّفَني كلامًا يدرأُ عني سَوطًا أو سَوطينِ إلَّا كنتُ متكلِّمًا به. قال ابنُ حزمٍ: ولا يُعرَفُ لعبدِ الله مِن الصَّحابةِ مُخَالِفٌ.
          قال: واحتجُّوا في إلزامِ النَّذْرِ واليمينِ بالكُرْهِ بحديثٍ فاسدٍ مِن طريقِ حُذَيفةَ ☺ أنَّ المشركين أخذوه وهو يريدُ رسولَ الله صلعم بِبَدْرٍ فأحلفوه ألَّا يأتِيَ مُحَمَّدًا فحلفَ، فلمَّا أَخبرَ رسولَ الله صلعم قال: ((نَفِي لهم بعهدِهم ونستعينُ اللهَ عليهم)) قال: وهذا حديثٌ مكذوبٌ وما كان المشركون المانعون عن رسولِ الله صلعم قطُّ في طريقِ بدرٍ، وحُذَيفةُ لم يكن مِن أهلِ مكَّة إنَّما هو مِن أهلِ المدينةِ حليفٌ للأنصارِ، ونصُّ القرآن يُخبِرُ بأنَّهم لم يجتمعوا ببدرٍ عن موعِدٍ ولا عَلِمَ بعضُهم ببعضٍ حتى قرُبَ العَسْكَرُ، ولم يكن بينهم إلَّا كثيبُ رَمْلٍ فقط. ومِثْلُهم احتجَّ بمثلِه، حاشَ للهِ أن يأمُرَ رسولَ الله صلعم بإنفاذِ عهدٍ بمعصيةٍ.
          قلتُ: عجيبٌ منه؛ فما أنكره ثابتٌ في «صحيح مُسْلمٍ» مِن حديثِ أبي الطُّفَيلِ عنه بالإسنادِ الصَّحيح، وقال البزَّار: إنه قد رُوِيَ مِن غيرِ وجهٍ عن حُذَيفةَ ولا نعلمُه رُوِيَ عن أبي الطُّفَيل عن حُذَيفة إلَّا بهذا الإسناد. وأخرجه ابنُ سَعْدٍ في «طبقاتِه» مِن حديثِ أبي إِسْحَاقَ أُراه عن مُصْعَب بن سَعْدٍ قال: أخذَ حُذَيفةَ وأباه المشركونَ قبْلَ بدرٍ فأرادوا أن يَقتلوهما فأخذوا عليهما عَهْدَ الله أن لا تُعِينَا علينا، فحلفْنا لهم. الحديث.
          ومِن حديثِ أبي إِسْحَاقَ أيضًا عن رَجُلٍ عن حُذَيفةَ به. وهذا / الرَّجُلُ هو صِلَةُ بنُ زُفَرَ كما بيَّنه البزَّار، وروايةُ ابنِ سَعْدٍ: ولا مانعَ مِن الَّذي قد يسافر لحاجةٍ تَعْرِض له. وفي روايةِ ابنِ سَعْدٍ: فمرَّا بهم وهم بالقُرْبِ مِن بدرٍ فأحلفاهما. وبيَّن الشارع بوفاءِ يمينِهما عدمَ الحاجة إلى ذلك فإنَّ الله ناصرُه، ثمَّ إنَّ حُذَيفةَ لا شَكَّ في كونِه مهاجرًا، وقد رَوَى البزَّار بإسنادِه عنه قال: ((خيَّرنِي رسولُ الله صلعم بين الهِجْرةِ والنُّصْرَةِ فاخترتُ الهِجرة)) ثمَّ قال: هذا الحديثُ لا نعلمُ رواه إلَّا حُذَيفةُ عن رسولِ الله صلعم ولا نحفظُهُ إلَّا مِن حديثِ مُسلمِ بن إبراهيمَ عن حمَّاد بن سَلَمَةَ عن عليٍّ عن سَعِيد بن المسيِّب عنه. وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: هاجَرَ إلى رسولِ الله صلعم فخيَّره بين الهِجرةِ والنُّصْرةِ، وبنحوِه ذكرَهُ ابنُ حِبَّانَ وابنُ مَنْدَه وأبو نُعَيمٍ في أُخَر، والهِجرة لا تكونُ مِن المدينة.
          فَصْلٌ: قولُه في الحديث: (كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ) أي في القُنُوتِ. وعيَّاشُ بنُ أبي رَبِيعةَ مِن بني مخزومٍ، وسَلَمَةُ بن هِشَامٍ أخو أبي جَهْلٍ، والوليدُ بن الوليدِ ابنُ عمِّ أبي جَهْلٍ، وهذا كان سببَ القُنُوتِ. والوَطْأَةُ الأَخْذَة، وقال الدَّاوُدِيُّ: هي الأرضُ.