التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السبق بين الخيل

          ░56▒ (بابُ: السَّبْقِ بَيْنَ الخَيْلِ)
          2868- ذكر فيه حديثَ ابن عمرَ مِنْ ثلاثة طرقٍ في ثلاثة أبوابٍ: (حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ الله عن نافعٍ، عَنِ ابن عمرَ قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ _صلعم_ مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى، وقَالَ عَبْدُ الله: عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ الله، قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَّنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ).
          هذا الحديث سبق في أحكام المساجد في باب: هل يُقال: مسجد بني فلانٍ؟ [خ¦420] ثُمَّ ترجم عليه هنا:
          ░57▒ (بابُ: إِضْمَارِ الخَيْلِ لِلسَّبْقِ)
          2869- ثُمَّ ساقه عن أَحْمَدَ بنِ يونسَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عن نافعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ _◙_ (سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتي لَمْ تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الودَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ الله كَانَ سَابَقَ بِهَا)، ثُمَّ ترجم عليه:
          ░58▒ (بابُ: غَايَةِ السَّبْقِ لِلْخَيْلِ المُضَمَّرَةِ)
          2870- ثُمَّ ساقه: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ محمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عن نافعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ)، فذكره. قال ابن عُقبة في الأوَّل: بَين ذلك (سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَو سَبْعَةٌ)، وتضمير الخيل أن تدخل في بيتٍ وينقص مِنْ علفه ويُجلَّل حتَّى يكثر عَرقُه فينقصَ لحمه، فيكونَ أقوى لجريه، وقيل: يُنْقص علفُه ويُجلَّل بجُلٍّ مبلولٍ، وفيه تجويع البهائم على وجه الإصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإنَّما سابق _◙_ ليُعلِّم النَّاس إجراء الخيل لملاقاة العدوِّ، وجعل بعضُهم المسابقة سُنَّةً، وبعضهم أباحه، وفيه جوازُ المسابقة بينها وذَلك / ممَّا خُصَّ به، وخرج مِنْ باب القمار بالسُّنَّة، وكذلك هو خارج مِنْ باب تعذيب البهائم لأنَّ الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها، وفيه رياضةُ الخيل المعدَّةِ للجهاد، ومسابقة الأميال، والميل مِنَ الأرض: قدرُ مَدِّ البصر كما قال ابن فارسٍ، و(الأمَدُ) الغاية الَّتي يُنتهى إليها مِنْ موضع أو وقتٍ، و(الحَفْيَاءِ) _بالحاء المهملة ثُمَّ فاءٍ ثُمَّ ياءٍ_: موضعٌ خارج المدينة، و(الثَّنِيَّةُ) الجبل وتُرى عن بعدٍ، و(بَنُو زُرَيْقٍ) _بتقديم الزَّاي على الرَّاء_ قبيلٌ مِنَ الأنصار، و(ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ) ممَّا يلي طريق مكَّة وهي خارج المدينة.
          وبوَّب إضمار الخيل للسَّبق، ولم يأتِ في الباب بذكر الإضمار، ويُجاب بأنَّه أشار بطرفٍ مِنَ الحديث إلى بقيَّته وأحال على سائره لأنَّ تمام الحديث: سابقَ بينِ الخيلِ الَّتي ضُمِّرَتْ وبينَ الخيلِ الَّتي لَمْ تُضَمَّر، وذلك كلُّه موجودٌ في حديثٍ واحدٍ فلا حرج عليه في تبويبه، وقال ابن المنيِّر: البُخاريُّ يترجم عَلى الَّشيء مِنَ الجهة العامَّة، فقد يكون بائنًا وقد يكون متفهَّمًا، فمعنى التَّرجمة أنَّه هل هو شرطٌ أم لا؟ فبيَّن أنَّه ليس بشرطٍ لأنَّه _◙_ سابق بها مضمَّرةً وغير مضمَّرةٍ، وهذا أقعدُ بمقاصد البُخاريِّ، قال الأخفش: كان أهل المدينة يوادعون الحاجَّ إليها، أي: إلى ثنيَّة الوداع، فإن أراد أنَّ ذلك كان في الجاهليَّة فهو كما قال، وإلَّا فليس كذلك لأنَّه لمَّا قدم _◙_ مهاجرًا إلى المدينة تلقَّته الأنصار يرتجزون:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنا                     مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعْ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَينا                     ما دَعَا للهِ دَاعْ
          وفيه أنَّ المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمدادها معلومًا، وأن تكون الخيل متساويةَ الأحوال أو متقاربةً، وألَّا يسابَق المضمَّر مع غيره، وهذا إجماعٌ مِنَ العلماء لأنَّ صبر الفرس المضمَّر المجوَّع في الجري أكثر مِنْ صبر المعلوف ولذلك جُعلت غايةُ المضمَّرة ستَّةَ أميالٍ أو سبعةً وجُعلت غاية المعلوفة ميلًا واحدًا.
          واختلف العلماء في صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيِّب: ليس بِرِهَان الخيل بأسٌ إذا أُدخل فيها محلِّلٌ لا يأمنان أن يُسبق، فإن سبق أخذ السَّبق، وإن سُبِق لم يكن عليه شيءٌ، وبه قال الزُّهْريُّ والأَوْزاعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ قالوا: إذا أدخل فرسًا بين فرسين وقد أَمن مِنْ أن يُسبق فهو قمارٌ لا يجوز، وقال مالكٌ: ليس عليه العمل، وفسَّر العلماء قول سعيدٍ أنَّ معنى دخول المحلِّل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرَّم فيجعل عنده كلُّ واحدٍ مِنَ المتراهنين سبقًا فمَنْ سبق منهما أخذ السَّبقين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلِّل أخذهما، وإن سُبق لم يُؤخذ منه شيءٌ، ولا يقول مالكٌ بالسَّبق بالمحلِّل، وإنَّما يجوز عنده أن يجعل الرَّجل سبقه ولا يرجع إليه بكلِّ حالٍ كسبق الإمام فمَنْ سبق كان له، وإن أجرى جاعلُ السَّبق معهم فسَبق هو كان للمصلِّي، وهو الَّذي يليه إن كانت خيلًا كثيرةً، وإن كانا فرسين فسَبق جاعلُ السَّبق فهو طعمةٌ لِمَنْ حضر، وإن سَبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم، وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ أنَه أجاز أن يشترط واضع السَّبق أخذ السَّبقِ، وإن سُبق هذا أخذ سبقه، وبه أخذ أصبغُ وابن وهبٍ.
          قال ابن الموَّاز: وكراهة مالكٍ المحلِّل إنَّما هو على قوله إنَّه يجب إخراجُ السَّبق بكلِّ حالٍ، وفي قياس قوله الآخر أنَّه جائزٌ، وبه أقول، وهو قول ابن المسيِّب وابن شِهابٍ، وقال أبو حَنِيفةَ والثَّوريُّ والشَّافعيُّ: الإسباق على مالكِ أربابِها، وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السَّبق إلَّا بالشَّرط المشروط فيه، فإن لم يكن ذلك انصرف السَّبق إلى مَنْ جعله، وقال محمَّد بن الحسن في أصحابه: إذا جُعل السَّبق واحدٌ فقال: إن سبقتني فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتك فعليك كذا فلا بأس به، ويُكره أن يقول: إنْ سبقتك فعليك كذا وإلَّا فعليَّ كذا، هذا لا خير فيه، وإن قال رجلٌ غيرُهما: أيُّكما سبق فله كذا فلا بأس به، وإن كان بينهما محلِّلٌ إن سبق لم يَغْرم، وإن سُبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يَسْبِق ويُسْبَق، قالوا: وما عدا هذه الأشياءَ فهي قمارٌ.