التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في لواء النبي

          ░121▒ بَاب: مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلعم.
          2974- ذكر فيه ثلاثةَ أحاديثَ:
          أحدها: حديث ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرَظِيُّ (أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ ☺ _وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسُولِ الله صلعم_ / أَرَادَ الحَجَّ فَرَجَّلَ).
          وهذا الحديث طرفٌ منه، وتمامه: ((فرجَّل أحدَ شقَّي رأسه))، وقد ذكره بتمامه آخر الكتاب، وذكر منه هنا اللِّواء فقط لأجل ما ترجم له، ولفظ الإسماعيليِّ كذلك: ((فإذا هديُه قد قُلِّد فأهلَّ بالحجِّ ولم يرجِّل شقَّ رأسه الآخر))، وكذا ذكره البَرْقانيُّ فيما ذكره الحُمَيديُّ.
          ومعنى: (فَرَجَّلَ) أي: سرَّح شعره لطول بقائه شعثًا.
          2975- ثانيها: حديث سَلمة بن الأَكْوع: (كَانَ عَلِيٌّ ☺ تَخَلَّفَ عَن النَّبِيِّ صلعم فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ) وفيه: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ قَالَ: لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ: يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ الله عَلَيْهِ فَإِذا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَما نَرْجُوهُ، قالوا: هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ الله صلعم فَفَتَحَ الله عَلَيْهِ).
          2976- ثالثها: حديث نافعِ بن جُبَيْرٍ قَالَ: (سَمِعْتُ العَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ ☻: هَا هُنَا أَمَرَكَ النَّبِيُّ صلعم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ).
          الشَّرح: ثعلبةُ بن أبي مالكٍ هذا له رؤيةٌ، وقيس بن سعدٍ هو ابن عُبادة بن دُلَيْمٍ أبو عبد الله الخزرجيُّ، صاحب شرطة رسول صلعم، وكان ضخمًا طويلًا جوادًا سيِّدًا مِنْ ذوي الرَّأي والدَّهاء والتَّقدُّم، مات بالمدينة في آخر خلافة معاويةَ، وأرسل ملك الرُّوم إلى معاويةَ أن أرسل إليَّ سراويلَ أتمِّ رجلٍ عندك، فقال لقيسٍ: إذا بلغت منزلك فابعث إلينا بسراويلك، فخلع السَّراويل مكانه وألقاه إليه، فقيل له: فعلت هذا بنفسك؟ قال: خشيت أن يُقال: إنَّه سراويلُ رجلٍ مِنْ قوم عادٍ، واستعمله عليٌّ على مصر فضيَّق على معاويةَ، فجعل معاوية يقول في الملأ: جزى الله قيسًا خيرًا، ما يكون عند عليٍّ أميرٌ يكيدنا به إلَّا علمنا به، فبلغ ذلك عليًّا فعزله واستعمل محمَّد بن أبي بكرٍ مكانه، فقال له قيسُ بن سعدٍ: إنَّ أمير المؤمنين خُدع في أمري، ولكن افعل كذا وافعل كذا واحترسْ مِنْ كذا، فظنَّ محمَّدٌ أنَّه غشَّه فخالف ذلك فأُتي عليه.
          قال المهلَّب: فيه أنَّ لواءَ الإمام ينبغي أن يكون له صاحبٌ معلومٌ، وإن كان مِنَ الأنصار فهو أولى للاستنان بالشَّارع، لأنَّ قيس بن سعدٍ كان مِنَ الأنصار، وهم الَّذِين كانوا عاقدوا النَّبيَّ صلعم أن يقاتلوا النَّاس كافَّةً حتَّى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فهم أشدُّ النَّاس في قتال العدوِّ، بعدما هاجر مع رسول الله صلعم، وبالأنصار نادى رسول الله صلعم يوم حُنينٍ أوَّل مَنْ نادى.
          وفي حديث عليٍّ أيضًا أنَّ الرَّاية لا يجب أن يحملَها إلَّا مَنْ ولَّاه الإمام إيَّاها، ولا تكون لِمَنْ أخذها إلَّا بولايةٍ.
          وقال الطَّبَريُّ: فيه الدِّلالة البيِّنة على أنَّ على إمام المسلمين إذا وجَّه جيشًا أو سرِيَّةً أن يُؤمِّر عليهم أميرًا موثوقًا بنيَّته وبصيرته في قتالهم، ممَّن له بأسٌ ونجدةٌ ومعرفةٌ لسياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنَّه صلعم وجَّه إلى خَيبرَ مِنْ أفضل الصَّحابة وأنفذِهم بصيرةً وغناءً وأنكاهم للعدوِّ، وجعل له لواءً الرَّايةَ يجتمع جيشُه تحتها، فيثبتوا لثباتها عند اللِّقاء ويزحفوا لزحفتها.
          وقوله: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ) عرَّفها بألْ لأنَّها كانت مِنْ سنَّته في حروبه، فينبغي أن يسار بسيرته في ذلك.
          ورُوي أنَّ لواءه كان أبيضَ ورايته سوداءَ مِنْ مِرْطٍ مُرَحَّلٍ لعائشة، رواه ابن عبَّاسٍ وبُرَيدة فيما ذكره ابن أبي عاصمٍ، وعن البَراء: كانت سوداءَ مربَّعةً، وقال جابرٌ: ((دخل رسول الله مكَّة ولواؤه أبيض)) وقال مجاهدٌ: ((كان لرسول الله صلعم لواءٌ أغبر)) وعند الرُّشَاطيِّ: الرَّايات إنَّما كانت بَخبيرَ، وإنَّما كانت الألوية قبلُ، وروى ابن أبي عاصمٍ مِنْ حديث سِمَاكٍ عن رجلٍ مِنْ بني عِجْلٍ قال: ورأيت لواءً أبيض، والنَّاس يقولون: هذا رسول الله صلعم، وعن سِمَاكٍ عن رجلٍ مِنْ قومه قال: رأيت راية رسول الله صلعم صفراء، وعن الحارث بن حسَّان: رأيت النَّبيَّ صلعم وإذا راياتٌ سودٌ، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم مِنْ غَزاةٍ، وعقد لبني سُلَيمٍ رايةً حمراءَ وللأنصارِ صفراءَ، ورُوي أنَّ راية عليٍّ يوم صفِّين كانت حمراءَ، مكتوبٌ فيها محمَّدٌ رسول الله، وكانت له رايةٌ سوداءُ.
          قال المهلَّب: وفي حديث الزُّبَير أنَّ الرَّاية لا يركزها إلَّا بإذن الإمام؛ لأنَّها علامةٌ على الإمام ومكانه، فلا ينبغي أن يتصرَّف فيها إلَّا بأمره، وممَّا يدلُّ على أنَّها ولايةٌ قوله صلعم: ((أَخذ الرَّاية زيدٌ فأُصيب، ثُمَّ أخذها خالدٌ مِنْ غير إمرةٍ ففُتح له)) فهذا نصٌّ في ولايتها.
          قال ابن الأثير: ولا يمسك اللِّواءَ إلَّا صاحبُ الجيش.
          قلت: في «تاريخ أبي الفرج الأمويِّ» أنَّ عمرَ سُئل عن الشُّعراء فقال: زهير بن أبي سُلمى أمير الشُّعراء، فقيل له: قال رسول الله صلعم: ((امرؤ القيس حامل لواء الشُّعراء وقائدهم إلى النَّار)) فقال: إنَّ الرَّاية لا تكون إلَّا مع الأمير.
          فائدةٌ: اللِّواء ما عُقد في طرف الرُّمح ويكون معه، وبذلك سُمِّي لواءً، والرَّاية ثوبٌ يُجعل في طرف الرُّمح ويخلَّى كهيئته تصفِقه الرِّيح، قاله ابن العربِّي.
          أخرى:
          في حديث سلَمةَ أنَّ الرَّمد عذرٌ، والفضل له أن يخرج، وفي حديثٍ آخر: ((فبات النَّاس يتشوَّفون إليها وغدَوا كذلك، فقال: أين عليٌّ؟ فقالوا: رَمِد)) فيحتمل كما قال الدَّاوُديُّ أن يقول: هذا عليٌّ _حين قدم_ ثُمَّ يدعوه بعد ذلك، فظاهر الحديث: (فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ) أنَّ ذلك كان بإثر قولهم: (هَذَا عَلِيٌّ).
          فائدةٌ ثالثةٌ: في حديث عليٍّ الخبر عن بعض أعلام النُّبوَّة، وذلك خبره عن الغيب الَّذي لا يكون مثله إلَّا بوحيٍ مِنَ الله، وهو قوله: (يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ).