التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل

          ░139▒ باب: ما قيل في الجَرَس ونحوه في أعناق الإبل.
          3005- حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي بكرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ ☺ أَخْبَرَهُ (أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله صلعم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَالَ عَبْدُ الله: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلعم أَلَّا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ).
          الشَّرح: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ وأبو داود، ورواه النَّسَائيُّ عن قُتيبة عن مالكٍ بإسناده: أنَّ رجلًا مِنَ الأنصار أخبره، ولم يقل: عن أبي بَشيرٍ.
          وأبو بَشيرٍ بفتح الباء الموحَّدة، واسمه قيسٌ الأكبر بنُ عُبيدٍ المازنيُّ، وليس له في «الصَّحيحين» سوى هذا الحديث، وفي «الكمال» لعبد الغنيِّ وتبعه «التَّهذيب» أنَّ له ثلاثة أحاديث، أحدها: هذا، ثانيها: النَّهي عن الصَّلاة بعد طلوع الشَّمس، ثالثها: أنَّه صلعم حرَّم ما بين لابَتَيها، ومنهم مَنْ جعلها لثلاثة رجالٍ، والصَّحيح أنَّه واحدٌ، قالا: وليس في الصَّحابة أبو بَشيرٍ غيره. وليس كما ذكرا، كما أوضحتُه في كنى الكتب السِّتَّة مِنْ كتابي.
          فإن قلت: لا ذكر للجَرَس في الحديث، فكيف بوَّب له؟ قلت: تمحَّل له بعضهم بقول الخَطَّابيِّ: أمر بقطع القلائد، لأنَّهم كانوا يعلِّقون فيها الأجراس، وليس بجيِّدٍ، ففي «الموطَّآت» للدَّارَقُطْنيِّ مِنْ رواية عمرَ بن عثمانَ عن مالكٍ به، وفيه: ((ولا جَرَس في عنق بعيرٍ إلَّا قُطع)).
          ومِنْ عادته الإحالة على أطراف الحديث في التَّبويب، قال أبو عمرَ: وفي رواية رَوح بن عُبادة عن مالكٍ: فأرسل رسولُ الله زيدًا مولاه، / قال: وهو عندي زيدُ بن حارثةَ، ولأبي داود: عن أبي وَهبٍ الجَيْشَانيِّ مرفوعًا: ((اربطوا الخيل وقلِّدوها ولا تقلِّدوها الأوتار)).
          قال مالكٌ في «الموطَّأ» إثر حديث الباب: أرى ذلك مِنَ العين، ففسَّر المعنى الَّذي مِنْ أجله أمر الشَّارع بقطع القلائد، وذلك أنَّ الَّذي قلَّدها إذا اعتقد أنَّها تردُّ العين فقد ظنَّ أنَّها تردُّ القدر، ولا يجوز اعتقاد هذا، ولهذا رُوي أنَّ الرُّفقة الَّتي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، وقال ابن حِبَّان في «صحيحه»: المراد: رُفقةٌ فيها رسول الله صلعم لأجل الوحي، فأغرب.
          ولا بأس بتعليق التَّمائم والحِرَز الَّذي فيها الدُّعاء والرُّقى بالقرآن عند جميع العلماء، لأنَّ ذلك مِنَ التَّعوُّذ بأسمائه، وقد سُئل عيسى بن دينارٍ عن قلادةٍ ملوَّنةٍ فيها خَرَزٌ يعلِّقها على فرسه للجَمال فقال: لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين. قال أبو عبد الملك: وقول غيره أحسنُ.
          قال المهلَّب: وإنَّما تُجعل القلائد مِنْ وَتَرٍ لقوَّتها وبقائها فخصَّها صلعم، ثُمَّ عمَّ سائر القلائد بقوله: (وَلَا قِلاَدَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ) فأطلق النَّهي على ما تُقلَّد به الدَّوابُّ، وقد سُئل مالكٌ عن القِلادة فقال: ما سمعت بكراهته إلَّا في الوَتَر، يعني: أوتار القِسيِّ. قال أبو عبيدٍ: وإنَّما نهى عن التَّقليد بالأوتار لأنَّ الدواب تتأذَّى بذلك ويضيق عليها نفَسُها ورعيُها، وربَّما تعلَّق ذلك بشجرةٍ فتختنق فتموت، أو تمتنع مِنَ السَّير كما جرى لناقة رسول الله صلعم حين احتُبست، وقد رُوي عن رسول الله صلعم: ((قلِّدوها الحبلَ ولا تقلِّدوها الأوتار)) وفسَّره وَكِيعٌ فقال: هذا ليس مِنْ قلائد الإبل المذكورة، ومعناه: لا تركبوها في الفِتن خشية أن يتعلَّق على راكبها وَتْرٌ يطالب به.
          وفي هذا حديث رُوَيْفِعٍ عند أبي داودَ: ((يا رُوَيْفِعُ أبلغِ النَّاسَ أنَّه مَنْ عقد لحيتَه أو تقلَّد وَتَرًا فإن محمَّدًا بريءٌ منه)) ولابن حِبَّان مِنْ حديث أنسٍ: ((أمر بقطع الأجراس)) وفي حديث عائشة: ((تقطع مِنْ أعناق الإبل يوم بدرٍ)). قال ابن عبد البرِّ: لا بأس أن تقلَّد الخيلُ قلائد الصُّوف الملوَّن إذا لم يكن ذلك خوفَ نزول العين وقد سلف ذلك، قال ابن الجَوزيِّ: ربَّما صحَّف مَنْ لا علم له بالحديث فقال: مِنْ وبَرٍ بباءٍ موحَّدةٍ، وإنَّما هي مثنَّاةٌ فوق، وإنَّما المراد بها: أوتار القِسيِّ كانوا يقلِّدونها لئلَّا تصيبها العينُ فأمر بالقطع لأنَّها لا تردُّ القَدَر كما سلف. وقيل: نُهي عن ذلك لئلَّا تختنقَ عند شدَّة الرَّكض، وهو قول محمَّد بن الحسن الشَّيْبانيِّ، وقال النَّضْر فيه كما قال وَكِيعٌ في الفرس، أي: لا تطلبوا الوَتْرَ، وهو بعيدٌ لفظًا ومعنًى.
          وقد اختلف العلماء في تقليد البعير وغيره مِنَ الحيوان والإنسان ما ليس بتعاويذَ قرآنيَّةٍ مخافة العين، فمنهم مَنْ نهى عنه ومنعه قبل الحاجة، وأجازه عند الحاجة تمسُّكًا بحديث أبي داود عن عُقبة بن عامرٍ مرفوعًا: ((مَنْ علَّق تميمةً فلا أتمَّ اللهُ له، ومَنْ علَّق وَدَعَةً فلا وَدَعَ اللهُ له))، ومنهم مَنْ أجازه قبل الحاجة وبعدها.
          والنَّهي عن الجَرَس بفتح الرَّاء عند الأكثرين، وحكى عِيَاضٌ عن أبي بحرٍ سكونها، وهو اسمٌ للصَّوت وأصله: الصَّوت الخفيِّ، لأنَّ الملائكة لا تصحب رُفقةً فيها جرسٌ، هذا قول الأكثرين، قالوا: لأنَّه شبيهٌ بالنَّاقوس، أو لأنَّه مِنَ التَّعاليق المنهيِّ عنها، وقيل: كُره لتصوُّته، وهو كراهة تنزيهٍ، وكره بعضهم الجَرَس الكبير دونَ الصَّغير.
          ومِنَ الغريب ما حكاه ابن التِّيْنِ أنَّ المراد بالوَتْرِ: أوتارَ الذُّحُولِ. يعني: لا يسفك عليها الدِّماء ولا يغار عليها على الأموال، يريد: لا يطلبون به الوَتْرَ الَّذي وُتروا به في الجاهليَّة، قال: وقيل: إنَّما نُهي عنها مِنْ قِبل التَّمائم، وهو كل ما عُلِّق خيفة أن ينزل به، وقال الدَّاوُديُّ: الأوبار ما يُنزع عن الجِمال شبه الصُّوف، فصُحِّف في الوَتْر.
          قلت: هذا تصحيفٌ كما سلف، قال: وقيل: لأنَّ صاحبها يَظنُّ أنَّ التَّمائم تمنع مِنَ الأخذ بالعين وتردُّ القَدر، ولا بأس بتعليقها إذا كان فيها خرزٌ، وإن كان ذلك للعين وغير ذلك إذا كان في الحِرَز الدُّعاء، لأنَّه مِنَ التَّعوُّذ بأسمائه وقد سلف، قال ابن التِّيْنِ: وكره مالكٌ تعليق الأجراس على أعناق الإبل والحمير، وأجاز القلادة وكَره الوَتَر. قال القاضي في جامع «معونته»: ووجه ذلك ما رُوي أنَّ رُفقةً أقبلت مِنْ مصر وفيها جَرَسٌ، فأمر صلعم بقطعه وقال: ((إنَّ الملائكة لا يصحبون قافلةً فيها جرسٌ)).