التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب صلاة التراويح

          ░░31▒▒ كِتَابُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ
          ░1▒ بابٌ فضْلُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
          ذَكَرَ فِيْهِ أحاديثَ:
          2008- أَحَدُهَا: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ لِرَمَضَانَ: (مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
          2009- 2010- ثَانِيْهَا: فِيْهِ مِثْلُهُ، قَالَ ابنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلعم والأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ / فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ.
          وعَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدٍ القَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ، وفي آخرِه: قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، والَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ.
          2011- 2012- ثَالِثُهَا: حديثُ عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم صَلَّى وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) ثُمَّ سَاقَهُ مُطَوَّلًا.
          2013- رَابِعُهَا: حديثُها أَيْضًا: (مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) إِلَى آخرِه.
          الشَّرْحُ: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ سَلَفَ فِي الإيمانِ [خ¦37] [خ¦38]، ومَعنَى (يَقُولُ لِرَمَضَانَ) أي: لأجلِه كَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] أي: قُلْ لأجلِهم ونحوِه، ومَعنَى (إِيمَانًا): مُصَدِّقًا بِمَا وَعَدَ اللهُ مِنَ الثَّوابِ عَلَيْهِ، (وَاحْتِسَابًا) يَعْنِي: يفعلُ ذَلِكَ ابتغاءَ وجهِه، و(غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) قولٌ عَامٌّ يُرجَى لِمَنْ فعلَ مَا ذُكِرَ فِيْهِ غُفْرَانُ ذُنُوبِه صغيرِها وكبيرِها، لِأَنَّهُ لم يَسْتَثنِ ذنْبًا دُونَ ذنبٍ، ولأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيْثِ مُسْلِمِ بنِ خالدٍ عَنِ العَلَاءِ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم وإِذَا أُنَاسٌ فِي رَمَضَانَ يُصَلُّونَ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ فقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيْلَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ، وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَقَالَ ◙: أَصَابُوا _أَوْ نِعْمَ مَا صَنَعُوا_)) ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا الحديثُ بالقَوِيِّ.
          وحديثُ عَائِشَةَ: (مَا كَانَ يَزِيدُ...) إِلَى آخرِهِ، سَلَفَ مطَوَّلًا فِي بابِ: قِيَامِ النَّبِيِّ صلعم باللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وغَيْرِهِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ [خ¦1147].
          وفِي جَمْعِ عُمَرَ ☺ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ واحدٍ، دليلٌ عَلَى نظرِ الإمامِ لرَعِيَّتِه فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ وصَلَاحِ دِيْنِهِمْ.
          وفِيْهِ: أنَّ اجتهادَ الإمامِ ورأيَه فِي السُّنَنِ مسموعٌ مِنْهُ مُؤتَمَرٌ لَهُ كَمَا ائتمرَ الصَّحَابَةُ لِعُمَرَ فِي جَمْعِهمْ عَلَى قَارِئٍ واحدٍ، لأنَّ طاعتَهم لاجتهادِه واستنباطِه طاعة اللهِ، لِقَوْلِهِ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} الآية [النِّساء:83].
          وفِيْهِ: جوازُ الاجتماعِ فِي صَلَاةِ النَّوَافِلِ وأنَّها فِي البيتِ أفضلُ، وفِيْهِ: أنَّ الجماعةَ المُتَّفِقَةَ فِي عَمَلِ الطَّاعَةِ مرجوٌّ بركتُها، إذْ دُعَاءُ كلِّ واحدٍ منهم يَشْمَلُ جَمَاعَتَهم، ولذلكَ صَارَتْ صَلَاةُ الجماعةِ تَفْضُلُ صلاةَ الفَذِّ بسبعٍ وعِشْرِيْنَ درجةً فيَجِبُ أَنْ تَكُوْنَ النَّافِلَةُ كذلكَ.
          وفَيْهِ: أنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةٌ، لأنَّ عُمَرَ لم يَسُنَّ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَ الشَّارِعُ يُحِبُّه، وقَدْ أَخْبَرَ ◙ بالعِلَّةِ الَّتِي مَنَعَتْ مِنَ الخُرُوجِ إليهم وهِيَ خشيةُ أن يُفتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وكَانَ بالمؤمنينَ رحيمًا، فَلَمَّا أَمِنَ عُمَرُ أنْ يُفْتَرضَ عَلَيْهِم فِي زَمَنِه لانقطاعِ الوَحيِ أقامَ هَذِهِ السُّنَّةَ وأَحيَاهَا، وذَلِكَ سنةَ أربعَ عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ فِي صَدْرِ خلافتِه.
          وفِيْهِ: أنَّ الأعمالَ إِذَا تُرِكَتِ لِعِلَّةٍ وزَالَتِ العِلَّةُ أنَّه لَا بَأْسَ بإِعَادَةِ العَمَلِ، كَمَا أَعَادَ عُمَرُ صَلَاةَ اللَّيلِ فِي رَمَضَانَ فِي الجماعةِ.
          وفِيْهِ: أنَّه يَجِبُ أن يَؤُمَّ القومَ أَقْرَؤُهم لكتابِ اللهِ، وكذلكَ قَالَ عُمَرُ: أُبَيٌّ أَقرَؤُنا، فلذَلِكَ قَدَّمَه عُمَرُ، وهَذَا عَلَى الاختيارِ إِذَا أَمْكَنَ، لأنَّ عُمَرَ قَدَّمَ أَيْضًا تَمِيمًا الدَّارِيَّ ومعلومٌ أنَّ كثيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَقرَأُ مِنْهُ، فَدَلَّ هَذَا أنَّ قولَه ◙: ((يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ)) إنَّما هُوَ عَلَى الاختيارِ.
          و(الأَوْزاعُ): الفِرَقُ، لَا واحدَ لَهُ مِنْ لفظِه، وقولُه: (مُتَفَرِّقُونَ) عَلَى مَعنَى التَّأكِيدِ، لأنَّ الأوزاعَ: الجماعاتُ المُتَفَرِّقُونَ، وقَالَ ابنُ فَارِسٍ: الأوزاعُ الجماعاتُ، فعَلَى هَذَا يكونُ المُتَفَرِّقُونَ تفسيرًا، وعبارةُ صَاحِبِ «العينِ»: أوزاعُ النَّاسِ: ضُرُوبٌ منهم، والتَّوزِيعُ: القِسْمَةُ.
          وقولُ عُمَرَ: (نِعْمَ البِدْعَةُ) كَذَا هُوَ فِي روايةِ أَبِي الحَسَنِ (نِعْمَ) ووجهُه أنَّها تَقَدَّمَتْ مُؤَنَّثًا غيرَ ذِي فَرْجٍ مثل: {وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} [آل عمران:86]، وهِيَ كلمةٌ تَجمَعُ المَحَاسِنَ كلَّها كضِدِّهِ فِي بِئْسَ.
          وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: وَقَعَ فِي بعضِ النُّسَخِ: بالهاءِ وهُوَ الصَّوَابُ عَلَى أُصُولِ الكُوفِيِّينَ، وإِنَّمَا يَكُونُ عندَ البَصرِيِّينَ بالتَّاءِ ممدودًا نِعْمَتْ، لأنَّ (نِعْمَ) عندَهم فعلٌ فلَا يَتَّصِلُ بِهِ إلَّا تَاءُ التَّأنِيثِ دونَ هَائِهِ.
          و(البِدْعَةُ): اختراعُ مَا لم يَكُنْ قبلُ، فمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةُ ضلالةٍ، ومَا وَافَقَها فَهُوَ بِدْعَةُ هُدًى، وقَدْ سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فقَالَ: بِدْعَةٌ ونِعْمَتِ البِدْعَةُ، وهَذَا تصريحٌ مِنْ عُمَرَ أنَّه أوَّلُ مَنْ جَمَعَ فِي قيامِ رَمَضَانَ عَلَى إمامٍ واحدٍ وتَابَعُوهُ، وسَمَّاهَا بِدْعَةً لِأَنَّهُ ◙ لم يَسُنَّهَا لهم ولَا فَعَلَها الصِّدِّيقُ وقَدْ فَعَلَها الفَارُوقُ، وقَدْ صَحَّ: ((اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي))، ووَصَفَهَا بِنِعْمَ، لِمَا فِيْهَا مِنْ وُجُوهٍ المَصالحِ.
          وقولُه: (وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ) يَعنِي: القيامَ آخِرَ اللَّيلِ، لحديثِ عَائِشَةَ أنَّه ◙: ((كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ)).
          وأَيْضًا فَهُوَ وقتُ التَّنَزُّلِ واستجابةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الوقت لِمَنْ دَعَاهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعنَى خَشْيَةَ الافتراضَ فِي الصَّلَاةَ فِي بابِ: تَحْرِيْضِ رَسُوْلِ اللهِ صلعم عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيْجَابٍ [خ¦1129]، وكَذَلِكَ أَسلَفنَا فِي بابِ: قِيَامِهِ ◙ بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ [خ¦1147]، اختلافَهم فِي عَدَدِ القِيَامِ فِي رَمَضَانَ.
          ونُنَبِّهُ هُنَا عَلَى طَرَفٍ وهُوَ أنَّ قَولَ عَائِشَةَ هُنَا مُوَافَقَةٌ لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ وتَميْمًا الدَّارِيَّ أنَّ يَقُومَا للنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وقَالَ الدَّاوُدِيُّ وغيرُه: ليستْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُعَارِضَةً لرِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنِ السَّائِبِ: ثلاثًا وعِشْرِيْنَ ركعةً، ولَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بثلاثٍ وعِشْرِيْنَ ركعةً بمُعَارِضَةٍ لروايةِ السَّائِبِ، لأنَّ عُمَرَ جَعَلَ النَّاسَ يَقُومُونَ فِي أوَّلِ أمرِه بإِحْدَى عَشْرَةَ كَمَا فَعَلَ ◙، وكَانُوا يَقرَؤُونَ بالمئينَ ويُطَوِّلُونَ القراءةَ، ثُمَّ زَادَ عُمَرُ بعدَ ذَلِكَ فجَعَلَها ثلاثًا وعِشْرِيْنَ ركعةً عَلَى مَا رَوَاهُ يَزِيدُ بنُ رُومَانَ، وبهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ والكُوفِيُّونَ والشَّافِعِيُّ _أي بالوترِ_ وأحمدُ، فكَانَ الأمرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فشَقَّ عَلَى النَّاسِ طُولُ القِيَامِ، لطولِ القراءةِ فخَفَّفَ القراءةَ، وكَثَّرُوا مِنَ الرُّكُوعِ، وكَانُوا يُصَلُّونَ تسعًا وثَلَاثِيْنَ ركعةً، الوترُ مِنْهَا ثلاثُ رَكَعَاتٍ، فاستَقَرَّ الأمرُ عَلَى ذَلِكَ وتَوَاطَأَ عَلَيْهِ النَّاسُ، / وبهذا قَالَ مَالِكٌ، فَلَيْسَ مَا جَاءَ مِنِ اختِلَافِ أحاديثِ رَمَضَانَ بتَنَاقُضٍ، وإِنَّمَا ذَلِكَ فِي زمانٍ بعدَ زمانٍ.
          وقَدْ سَلَفَ اختلافُهم فِي تأويلِ قولِه: (فَصَلَّى أَرْبَعًا) فِي أبوابِ صَلَاةِ اللَّيلِ [خ¦1147]، وأنَّ ذَلِكَ مُرَتَّبٌ عَلَى قولِه ◙: ((صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى))، وأنَّه سَلَّمَ بينَ الأربعِ، والرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذلكَ، وكذلكَ سَلَفَ _فِي بابِ: تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلعم عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ_ [خ¦1129] اختلافُهم فِي صَلَاةِ رَمَضَانَ، هَلْ هِيَ أفضلُ فِي البيتِ أو مَعَ الإمامِ؟ وقَالَ التِّرْمِذِيُّ: اختَلَفَ أهلُ العلمِ فِي قيامِ رَمَضَانَ، فرَأَى بعضُهم أنْ يُصَلِّيَ إِحْدَى وأَرْبَعِيْنَ ركعةً مَعَ الوترِ، وهُوَ قَوْلُ أهلِ المدينةِ، والعَمَلُ عَلَى هَذَا عندَهم بِهَا، وأكثرُ أهلِ العلمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعليٍّ وغيرِهما مِنَ الصَّحَابَةِ: عِشْرِينَ ركعةً، وهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وابنِ المباركِ والشَّافِعِيِّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَكَذَا أَدْرَكْتُ ببلدِنا مَكَّةَ يُصَلُّون عِشْرِيْنَ ركعةً، وقَالَ إِسْحَاقُ: يختارُ إِحْدَى وأَرْبَعِيْنَ ركعةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبيِّ بنِ كَعْبٍ.
          وعَنْ مَالِكٍ: تسعٌ وثَلَاثُونَ ركعةً، الوِتْرُ مِنْهَا ثلاثٌ والباقي سِتٌّ وثَلَاثُونَ ركعةً، وقَالَ صَاحِبُ «الرِّسَالَةِ»: واسعٌ أنْ يفعلَ ثلاثًا وعِشْرِيْنَ وتسعًا وثَلَاثِينَ، وقَالَ أَحْمَدُ: رُوِيَ فِي هَذَا ألوانٌ، ولَمْ يقضِ فِيْهِ بِشَيْءٍ، واختارَ هُوَ وابنُ المباركِ وإسْحَاقُ الصَّلَاةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شهرِ رَمَضَانَ، واختارَ الشَّافِعِيُّ أنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَحدَهُ إِذَا كَانَ قَارِئًا، وذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ زيادٍ النَّقَّاشُ فِي كتابِه «فَضْلُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ» عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بالمدينةِ بِضْعًا وثَلَاثِينَ ركعةً، وأَحَبُّ إليَّ غيرُ ذلكَ، وكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ، وعَنِ الحَسَنِ: أنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ صَلَّى بهم أَرْبَعِيْنَ ركعةً غيرَ ركعةٍ، أو أَرْبَعِيْنَ وركعةً، وعَنْ صَالِحٍ مَولَى التَّوْءَمَةِ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بإِحْدَى وأَرْبَعِيْنَ ركعةً يُوتِرُونَ مِنْهَا بخَمسٍ، وقَالَ الحَسَنُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ: كَانَ عبدُ الرَّحمَنِ بنُ الأَسْوَدِ يُصَلِّي بِنَا فِي رَمَضَانَ أَرْبَعِيْنَ ركعةً يُوتِرُ بسَبْعٍ.
          فأمَّا الصَّلَاةُ بينَ التَّرَاوِيحِ فعَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، وكَذَلِكَ قَالَهُ ابنُ أَبِي ذِئْبٍ، وكَانَ اللَّيثُ بنُ سَعْدٍ والأَوْزَاعِيُّ وسَعِيدُ بنُ عبدِ العزيزِ وابنُ جابرٍ وبَكْرُ بنُ مُضَرَ يُصَلُّونَ بينَ التَّرَاوِيحِ فِي شهرِ رَمَضَانَ، وقَالَ سُفْيَانُ بنُ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بذلكَ، وزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وضَرَبَهم عَلَيْهِ، ونَهَى عَامِرٌ عَنِ الصَّلَاةِ بينَ التَّرَاوِيحِ وقَالَ: لَا تُشَبِّهُوهَا بالفريضةِ، وكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا رَأَى الرَّجُلَ يُصَلِّي بينَ التَّروِيحَتَينِ قَالَ: تُصَلِّي وإِمَامُكَ قاعدٌ بينَ يديكَ، أترغبُ عَنَّا؟! فلستَ مِنَّا.
          وكَانَ عَامِرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ وأَبُو بَكْرِ بنُ حزمٍ ويَحْيَى بنُ سَعِيدٍ يُصَلُّونَ بينَ الأَشْفَاعِ، وإِبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ كَانُوا يُصَلُّونَ بينَ الرُّكُوعِ، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ بالصَّلَاةِ بينَ التَّرَاوِيحِ، وقَالَ قَيْسُ بنُ عُبَادٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي مُوْسَى الأشعريِّ فِي رَمَضَانَ فقَامَ بينَ الرَّكعَتَينِ، وقَالَ زَيْدُ بنُ وَهْبٍ: كَانَ عُمَرُ يُرَوِّحُ بينَ التَّروِيحَتَينِ قَدْرَ مَا يذهبُ الرَّجُلُ إِلَى سَلْعٍ ويأتي، وقَالَ سُفْيَانُ بنُ سَعِيدٍ: أَطْوَلُ ذَلِكَ قَدْرُ مَا يُصَلِّي الرَّكَعَاتِ ويستريحُ، وقَالَ نَصْرُ بنُ سُفْيَانَ: كنَّا نُرَوِّحُ مَعَ عُمَرَ قَدْرَ مَا يقرأُ الرَّجُلُ مئةَ آيةٍ، وابنُ الزُّبَيْرِ: قَدْرَ مَا يُصَلِّي الرَّجُلُ أربعَ ركعاتٍ يقرأُ فِي كلِّ ركعةٍ عشرَ آياتٍ، وقَالَ السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ: كَانَ القَارِئُ يقرأُ بالمئينَ حَتَّى كنَّا نعتمدُ عَلَى العَصَا مِنْ طولِ القيامِ.
          وقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ثَلَاثَ نَفَرٍ يَؤُمُّ فأسرعُهم أنْ يقرأَ ثَلَاثِيْنَ آيةً، وأوسطُهم خمسًا وعِشْرِيْنَ آيةً، وأبطأُهم عِشْرِيْنَ آيةً، وكَانَ ابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يقرأُ فِي رَمَضَانَ فِي الرَّكعَةِ الواحدةِ بـ {فاطر} و{عسق}، وكَانَ مَسْرُوقٌ يَقْرَأُ بالعنكبوتِ، وقَالَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ: جَاءَ عُمَرُ المسجدَ ذَاتَ ليلةٍ فِي رَمَضَانَ فقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدِ اجتَمَعُوا؟ فقَالَ: اجتَمَعُوا للصَّلَاةِ، فقَالَ: بدعةٌ ونِعْمَتِ البِدْعَةُ ثلاثًا، ثُمَّ قَالَ لأُبيِّ بنِ كَعْبٍ: صَلِّ بالرِّجَالِ، وقَالَ لسَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ: صَلِّ بالنِّسَاءِ، وفِي لَفْظٍ: لتَمِيمٍ الدَّارِيِّ.
          فَائِدَةٌ: حديثُ النَّضْرِ بنِ شَيْبَانَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحمَنِ عَنْ أَبِيْهِ مَرْفُوْعًا: ((رَمَضَانُ افْتَرَضَ اللهُ صِيَامَهُ، وَإِنِّي سَنَنْتُ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
          سُئِلَ عَنْهُ البُخَارِيُّ فقَالَ: الصَّحِيحُ حديثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ولَا يَصِحُّ لأَبِي سَلَمَةَ سماعٌ مِنْ أَبِيْهِ.
          وقَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: اجتَمَعَ يَحْيَى ومُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو عَلَى هَذَا الحديثِ أنَّه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ووَافَقَهم الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غيرِ عَزِيْمةٍ، وفي «النَّسَائِيِّ»، عَن النَّضْرِ: قُلْتُ لأَبِي سَلَمَةَ: حَدِّثْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِيكَ سَمِعَهُ أَبُوكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم لَيْسَ بينَ أَبِيكَ وبينَ رَسُولِ اللهِ أحدٌ فِي شهرِ رَمَضَانَ، فقَالَ: نعمْ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم... الحديثَ. وقَالَ البَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُروَى عَنِ ابنِ عَوْفٍ إلَّا بِهَذَا الإسنادِ، ومِنْ حديثِ النَّضْرِ، ورَوَاهُ عَنِ النَّضْرِ غيرُ واحدٍ.
          تَنْبِيْهَاتٌ: أَحَدُهَا قولُه: (وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ) أي: مُقَدَّمَهَا، وإقرارُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ إمَّا أنَّه شُغِلَ ولَمْ يَتَفَرَّغْ للنَّظَرِ فِي ذَلِكَ لقِصَرِ مُدَّتِهِ، أو رَأَى قِيَامَهم كَذَلِكَ أفضلَ مِنْ جَمْعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ.
          وقولُه: (يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ) يجوزُ أَنْ يَكُوْنَ الألفُ واللَّامُ فِي الرَّجُلِ للجنسِ وللعهدِ، أي: ويُصَلِّي آخرُ غيرُه مَعَهُ الرَّهْطُ يُصَلُّونَ بصَلَاتِهِ، فالضَّمِيرُ فِي (بِصَلاَتِهِ) رَاجِعٌ إِلَى غيرِ مذكورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ وعَلَى الثَّانِي فَيْهِ: أنَّ الإمامَ لَا يحتاجُ إِلَى نِيَّةِ الإمامةِ.
          و(الرَّهْطُ): مَا بينَ الثَّلاثَةِ إِلَى العَشَرَةِ، ذَكَرَهُ الخَطَّابِيُّ، وقَالَ ابنُ فَارِسٍ: (الرَّهْطُ) العِصَابَةُ دُونَ العَشَرَةِ، قَالَ: ويُقَالُ إِلَى الأَرْبَعِيْنَ.
          ثَانِيْهَا: قولُه: (فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ) هَذَا مِن اجتِهَادِهِ ☺ واستنباطِه مِنْ إقرارِ الشَّارِعِ النَّاسَ يُصَلُّونَ خلفَه ليلتينِ، وقِيَاسُه ذَلِكَ عَلَى جمعِ النَّاسِ عَلَى واحدٍ فِي الفرضِ، ولِمَا فِي اختلافِ الأَئِمَّةِ مِنِ افتراقِ الكلمةِ، ولأنَّه أنشطُ لكثيرٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ.
          وقولُه: (لَكَانَ أَمْثَلَ) أي: أفضلَ، وقِيْلَ: أَشَدَّ، وفِيْهِ: دلالةٌ واضحةٌ عَلَى صِحَّة القَولِ بالرَّأْيِ، وذُكِرَ أنَّ عَلَيًّا مَرَّ ليلةً ببعضِ مساجدِ الكوفةِ فِي رَمَضَانَ وهُمْ يَقُومُونَ، فقَالَ: نَوَّرَ عَلَينَا مَسَاجِدَنَا نَوَّرَ اللهُ عَلَيْهِ قَبْرَه.
          ثَالِثُهَا: ذَكَرْنَا هُنَا أنَّه امتَنَعَ فِي اللَّيلَةِ الرَّابِعَةِ، وجَاءَ الثَّالِثَةَ أو الرَّابِعَةَ، وعِلَّةُ امتِنَاعِ خُرُوجِهِ خشيةُ الفَرْضِ كَمَا نصَّ عَلَيْهِ فِي الحَدِيثِ، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: اختُلِفَ / فِي عِلَّةِ امتناعِه عَلَى أربعةِ أَوْجُهٍ: قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ اللهُ تَعَالَى أَوحَى إِلَيْهِ أنَّه إنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ معهم فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وأَنْ يَكُوْنَ ظَنَّ أنَّه سَيُفْرَضُ عَلَيْهِم لِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهم أنَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ مِنَ القُرَبِ فُرِضَ عَلَى أُمَّتِهِ، وأَنْ يَكُوْنَ خَافَ أنْ يظنَّ أحدٌ مِنْ أمَّتِهِ بعدَه إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا أنَّها واجبةٌ، فالزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا مِنْ جهةِ وُجُوبِ الاقتداءِ لَا مِنْ جهةِ إنشاءِ فرضٍ زائدٍ عَلَى الخَمْسِ، كَمَا يُوجِبُ المرءُ عَلَى نفسِه صَلَاةً بِنَذْرٍ، وأنَّ اللهَ تَعَالَى أوَّلَ مَا فَرَضَ الصَّلَاةَ خمسينَ ثُمَّ خُفِّفَتْ إِلَى خَمْسٍ، فَإِذَا عَادَتِ الأُمَّةُ فِيْمَا استَوْهَبَتْ لم يُسْتَنْكَرْ إثباتُ فرضٍ عَلَيْهِمْ، وقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ فريقٍ مِنَ النَّصَارَى أنَّهم ابتَدَعُوا رَهبَانِيَّةً ونُسُكًا، فَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ثُمَّ لَمَّا قصَّروا فِيْهَا لَحِقَهُمُ اللَّومُ فِي قولِه: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فَخَشِيَ أَنْ يَكُوْنَ سبيلُهم سبيلَ أولئكِ فَقَطَعَ العَمَلَ بِهِ شفقةً عَلَى أُمَّتِهِ.