التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التهجد بالليل

          ░19▒ بابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ.
          وَقَولِه ╡: {وَمِنَ اللَّيل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79].
          1120- ذَكَر فيه حديث ابن عبَّاسٍ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيل يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ...) الحديثُ بطوله.
          الشرح: التهجُّدُ عند العرب _كَما نقله ابن بطَّالٍ_: التيقُّظ والسهر بعد نَومهِ مِن اللَّيل، قال: والهجودُ أيضًا النومُ، يُقال: تهجَّدَ إذا سَهِرَ، وهَجَد إذا نام. قال الجوهريُّ: هَجَد وتهجَّد أي: نام ليلًا، وهَجَد وتهجَّد: سَهِرَ، وهو مِن الأضداد، ومنه قيل لصلاة اللَّيل: التهجُّد.
          وقال ابن فارسٍ: المتهجِّدُ المصلِّي ليلًا. كما ذكرَ البخاريُّ، وفي بعض نُسَخ البخاريِّ: <أي: اِسْهَرْ بِهِ>، وعليه مشى ابنُ التِّين وابن بطَّالٍ أي: اسهرْ نافلةً لك. وقيل له تَهَجُّدٌ لإلقاء الهجود عن نفسه. ونقل / ابنُ التِّين عن علقمةَ والأسود: التهجُّد بعدَ النوم، وهو في اللغة: السَّهرُ، ونقل النَّوويُّ عن العلماء أنَّ التهجُّدَ أصلُه: الصَّلاة في اللَّيل بعد النَّوم.
          ثمَّ قيامُ اللَّيل سنةٌ مؤكَّدةٌ، وادَّعى بعضُ السلف _كما حكاه القاضي_ أنَّه يجب على الأُمَّة مِن قيام اللَّيل ما يقع عليه الاسمُ ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، وهو غلطٌ مردودٌ، ولا شكَّ أنَّ التطوُّع المطلق الذي لا سبب له ليلًا أفضلُ منه نهارًا، لقوله صلعم: ((أفضلُ الصَّلاة بعد الفريضة صلاةُ اللَّيل)). أخرجه مسلمٌ مِن حديث أبي هُرَيرةَ، ولأنَّها تُفعَل في وقت الغفلة فكانت أهمَّ، فإنْ قَسَّمَ اللَّيل نصفين فالثاني أفضلُ، أو ثَلاثًا فالثُلُث الأوسطُ أفضلُ، أو أَسداسًا فالسُدُسُ الرابعُ والخامسُ أفضل لقِصَّة داود في«الصحيح»: ((كان ينام نصفَ اللَّيل، ويقوم ثُلُثَه، وينام سُدُسَه)).
          ويُكره قيامُ كلِّ اللَّيل دائمًا للحديث الصحيح فيه: ((وإنَّ لجسدكَ عليك حقًّا))، قاله لعبد الله بن عمرو. ولا يُكرَه إحياء بعض الليالي سيَّما العشرُ الأواخر فيستحبُّ، وكذا ليلتا العيدين، فقد ورد: أَنَّ مَن أحياهما لم يمُت قلبُه يومَ تموت القلوب.
          وحقيقةُ التهجُّد عندنا أن يُصَلِّي مِن اللَّيل شيئًا وإن قلَّ. وهل يُسمَّى الوِترُ تَهَجُّدًا، أو هو غيرُه؟ اضطُرِب عندنا فيه، وفي «الأمِّ» للشافعيِّ أنَّه يُسمَّى تهجُّدًا.
          وقوله: (نَافِلَةً لَكَ) تعني: فضلًا لك عن فرائضك. وقال قَتَادة: تطوُّعًا وفضيلةً.
          والنَّافلة في اللغة: الزيادة. واختُلف في المعنى الذي مِن أجلِهِ خُصَّ بذلك الشَّارع صلعم، فقال بعضُهم: لأنَّها كانت عليه فريضةً ولغيره تطوُّعٌ، فقال: أقِمْها نافلةً لك، قاله ابن عبَّاسٍ كما نقله ابن بطَّالٍ. ومنهم مَن قال بأنَّ صلاة اللَّيل كانت واجبةً عليه ثمَّ نُسخت فصارت نافلةً، أي تطوُّعًا. وقال مجاهدٌ: إنَّما قيل له ذلك لأنَّه لم يكن فعلُه ذلك يُكفِّرُ عنه شيئًا مِن الذنوب، لأنَّ الله تعالى غفَرَ له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، فكان له نافلةَ فضلٍ وزيادةً، وأمَّا غيرُه فهو كَفَّارةٌ له وليس له نافلة، وهذا خاصٌّ به. ومَن قال بأنَّه كان واجبًا عليه قال: معنى كونِه نافلةً له على التخصيص. أي: فريضةً لك زائدةً على الخَمْسِ، خُصِّصْتَ بها مِن بين أُمَّتِك.
          وصوَّب الطَّبريُّ الأوَّل، لأنَّه صلعم خصَّه الله بما فَرَضَهُ عليه مِن قيام اللَّيل مِن بينِ أُمَّتِه، ولا معنى لقول مجاهدٍ لأنَّه صلعم كان أشدَّ استغفارًا لِرَبِّه بعدَ نزول آية الغفران، وذلك أَنَّ هذه السورةَ نزلت عليه بعد مُنصَرَفِه مِن الحديبية، وأُنزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] عامَ قُبِض وقيل له فيها: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، وكان يَعُدُّ استغفارَه في المجلس الواحد مائةَ مرَّةٍ. قال: ومعلومٌ أنَّ الربَّ تعالى لم يأمرْه أن يستغفرَه إلَّا بما يَغفِر له باستغفاره. قال: فبانَ فسادُ قول مجاهدٍ.
          وحديثُ ابن عبَّاسٍ أخرجه مسلمٌ والأربعة. وشيخُ البخاريِّ فيه (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) هو ابن المدينيِّ. و(سُفْيانُ) هو ابنُ عُيَينة. ورواه مالكٌ في «الموطَّأ» عن أبي الزُّبير عن طاوسٍ عن ابن عبَّاسٍ، كذا رواه جماعةُ رُواةِ «الموطَّأ»، وَرَوَاه بعضُ مَن جَمَعَ حديثَ مالكٍ، فذكره عن مالكٍ عن أبي الزُّبير عن عطاءٍ عن ابن عبَّاسٍ، كما رواه يحيى.
          وقولُ البخاريِّ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) يعني: أَنَّ عبد الكريم زاد عن طاوسٍ هذه الزيادة.
          في «كتاب» أبي نُعَيمٍ الأصبهانيِّ: قال سُفْيان: كنتُ إذا قلتُ له _يعني لعبد الكريم أبي أُميَّةَ_: آخرُ حديث سليمان _يعني ابن أبي مسلمٍ الرَّاوي عن طاوسٍ_: ((ولا إله غيرك))؟ قال: ((ولا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله)). قال سُفْيان: وليس هو في حديث سليمانَ. وليس لعبد الكريم هذا في كتاب البخاريِّ غيرُ هذا الموضع، وهو: أبو أُمَيَّة عبدُ الكريم بن أبي الْمُخارِقِ قيسٍ _ويُقال: طارق_ المعلِّمُ البصريُّ نزيلُ مكَّةَ، روَى عن أنس بن مالكٍ وغيرِه وعنه أبو حنيفةَ ومالكٌ، وهو واهٍ، وقد بيَّنَ مسلم جرحَه في «مقدِّمته»، ولم ينبِّه البخاريُّ على شيءٍ مِن أمره، فهو محتمِلٌ عندَه، كما قال في «تاريخه»: كلُّ مَنْ لم أُبيِّن جرحَه فهو على الاحتمال، وإذا قلتُ: فيه نظرٌ، فلا يُحتمل.
          ووهِم ابن طاهرٍ فادَّعى أنَّهما أخرجا له في الحجِّ حديثًا واحدًا، والذي أخرجا له ذلك هو عبد الكريم الجزريُّ كما صرَّحا به، مات سنة سبع وعشرين ومئة، أفاده ابنُ الحَذَّاء، وأهمله الْمِزِّيُّ تبعًا لعبد الغنيِّ.
          وقوله: (قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمانُ بْن أَبِي مُسْلِمٍ: سَمِعْتُه مِن طَاوسَ، عَن ابن عبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم) مقصودُه بهذا: أنَّ سليمانَ سمعَه مِن طاوسٍ، فإنَّ في السند الأوَّل أتى: عنه بالعنعنة، وعبارةُ أبي نُعَيمٍ الأصبهانيِّ: وقال سُفْيان: كان سليمان بن أبي مسلمٍ سمعَه مِن طاوسٍ عن ابن عبَّاسٍ عن رسول الله صلعم.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِن وجهين:
          أحدهما: قولُه: (كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيل يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ) فيه: تهجدُّه صلعم، وأنَّه كان يدعو عند قيامه، ويُخلِص الثناء على الله بما هو أهلُه، والإقرار بوعده ووعيده.
          وفيه: الأسوة الحسنة. وفي وراية ابن عبَّاسٍ السَّالفة حين بات عند ميمونةَ: أنَّه صلعم لَمَّا استيقظ تلا العشر الآيات مِن آخر آل عمرانَ، فبَلَّغ ما شَهِدَه أو بُلِّغَه، وقد يكون كلُّه في وقتٍ واحدٍ، وسكت هو عنه أو نَسِيَه النَّاقل.
          ثانيهما: في معاني الدُّعاء الواقع فيه: قوله: (أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) كذا في أصل الدِّمياطيِّ، وفي بعضها بحذف: (أَنْتَ) وفيه لغاتٌ: قَيَّام، وقَيُّوم، وقَيِّم، وفي «الموطَّأ»: ((أنت قَيَّام)) وهما مِنْ صفاته تعالى، / والقَيُّومُ بنصِّ القرآن، وقَائمُ، ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، قال الهَرَويُّ: ويُقال: قَوَّامٌ. قال مجاهدٌ وأبو عُبَيدٍ: القَيُّومُ القائم على كلِّ شيءٍ. أي: مُدبِّر أَمْرِ خلقِه. وقال ابن عبَّاسٍ: هو الذي لا يزول. وقرأ علقمة: (الحيُّ القَيِّم). وقرأ عمر: (القَيَّامُ). واختُلِف في معناه فقيل: القائم بخلقه المدبِّرُ لهم. وقيل: الذي لا يزول.كما تقدَّم.
          وأصله: قَيْوِم على وزن فَيْعِل مثلُ: صَيِّب، وهذا قول البصريين. وقال الكوفيُّون: أصل قَيِّم: قَوِيْم، قال ابن كيسانَ: ولو كان كذلك ما جاز تغييره، كما لم يُغيَّر سَوِيق وطَوِيل. وقال ابن الأنباريِّ: أصل القَيُّوم: القيْوُوم، فلمَّا اجتمعت الياء والواو، والسابقُ ساكنٌ جُعِلَتا ياءً مشدَّدة، وأصلُ القَيَّامِ القَيْوَامُ. قال الفرَّاء: وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَالِ ويقولون للصَوَّاغ: صَيَّاغ. وقيل: (قَيَّام). على المبالغة مِن: قام بالشيء إذا هيَّأ له ما يَحتاج إليه. وقيل قيِّمُهما: خالقُهما وممسكُهما أن يزولا.
          وقوله: (وَمَنْ فِيْهِنَّ) أي: أنت القائم على كلِّ نفسٍ بما كسبت وخالقُها ورازقُها ومميتُها ومحييها. وقيل في معنى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] أفمن هو حافظٌ على كلِّ نفسٍ لا يغفل ولا يملُّ، فالمعنى: الحافظُ لهما ومَن فيهنَّ.
          وقوله: (أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي: بنورك يهتدي مَن في السماوات والأرض. قاله ابن بطَّالٍ. وقال ابن التِّين: يحتمل أن يكون مِن قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] قيل: معناه: ذو نورِ السموات والأرض. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ معناه: هادي أهلِهِما. ورُوي عنه أيضًا وعن مجاهدٍ: معناه مدبِّرُهما، شمسَهما وقمرَهما ونجومَهما. وقال ابن عرفةَ: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] أي: منيرهما. فعلى قول مَن قال: معناه ذو نورٍ، فنورُه: القرآن. وقال كعبٌ: محمَّد. فهو يعود إلى أنَّه ذو النُّور الذي هُدي به أهل السَّماوات والأرض. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون معناه: ذو النور الذي أضاءت السموات والأرض به. وإن قلنا: معناه هادي أهلهما. فيُحتمل أن يكون معناه: أنَّ الهُدى الذي يهدي به مُنيرٌ نَيِّرٌ في نفسه، ويحتمل أن يريد أنَّه يُنير قلوب المؤمنين. وإذا قلنا: معناه: مدبِّرهما، فمعناه: به يكون ومِن خَلقِهِ وتدبيرِه الشَّمسُ والقمرُ والنجومُ التي هي تُنيرهما، ويحتمل أن يكون النورُ الذي بمعنى الهداية، وأنَّه بتدبيره تعالى يهتدون، وقُرئ: {اللهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35]. بفتح النُّون والواو مشدَّدة. وقيل: مُنَزَّهٌ فيهما مِن كلِّ عيب، ومُبَرَّأٌ مِن كلِّ ريبةٍ. وقيل: إنَّه اسم مدحٍ، يُقال: فلان نُورُ البلد وشمسُ الزمان. وقال أبو العالية: مُزيِّنُهما بالشَّمس والقمر والنُّجُوم، ومزيِّنُ الأرض بالأنبياء والأولياء والعلماء.
          وقوله: (أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: مالكُهما ومالكُ مَن فيهما، وخالقُهما وما فيهما، وهو تكذيبٌ لمن قال: {إنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران:181].
          وقوله: (أَنْتَ الحَقُّ) هو اسمٌ مِن أسمائه وصفةٌ مِن صفاته، ومعناه: المتحقِّقُ وجودُه، وكلُّ شيءٍ صحَّ وجودُه وتحقَّق فهو حقٌّ، ومنه قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] أي: الكائنةُ حقًّا بغير شكٍّ. وهذا الوصف للربِّ جلَّ جلاله بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيرِه إذْ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدمٌ ولا يلحقه عدمٌ، وما عداه ممَّا يُقال عليه ذلك فهو بخلافه.
          وقال ابن التِّين: (أَنْتَ الحَقُّ) يحتمل أن يريد أنَّه اسم مِن أسمائه، ويحتمل أن يريد أنَّه الحقُّ ممَّن يدَّعي المشركون أنَّه إلهٌ مِن قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30]، وظاهر قوله في هذا: (الحَقُّ) يعود إلى الصدق، ويتعلَّق تسميته إلهًا بمعنى: أنَّ مَن سمَّاه إلهًا قال الحقَّ ومَن سمَّى غيره: إلهًا كَذَبَ.
          وقوله: (وَوَعْدُكَ الحَقُّ) يعني: أنَّه متحقَّقٌ لا شكَّ فيه، ولا يُخلف الميعاد {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} إلَّا ما تجاوز عنه {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وقيل في قوله: {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم:22] أي: وَعَدَ الجنَّةَ مَن أطاعه، وَوَعَدَ النَّارَ مَن كفر به وفاءً بوعده، وكان عائدًا إلى معنى الصِّدق، ويحتمل أن يريد به أنَّ وعدَه حقٌّ بمعنى: إثبات أنَّه قد وعد بالبعث والحشر والثَّواب والعقاب إنكارًا لقول مَن أنكر وعْدَه بذلك وكذَّب الرسُلَ فيما بلَّغوه مِن وعده ووعيده.
          وقوله: (وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ) أي: البعث، وقيل: الموت وفيه ضَعْفٌ، فأنت المميت لسائر الخلق وناشرُهم للِّقاء والجزاء.
          وقوله: (وَقَوْلُكَ حَقٌّ) أي: صدق وعدُك. وقال ابن التِّين: يقول: ووعدُك صِدْقٌ.
          وقوله: (وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ) فيه: الإقرار بهما وبالأنبياء كما سَيأتي. وقال ابن التِّين: فيه ثلاثة أوجهٍ:
          أحدها: أنَّ خبره بذلك لا يدخله كذبٌ ولا تغييرٌ.
          ثانيها: أنَّ خبر مَن أخبر عنه بذلك وبلَّغه حقٌّ.
          ثالثها: أنَّهما قد خُلِقَتَا.
          وقوله: (وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمحمَّد حَقٌّ) يقول: إنَّهم رسل الله، وأُعيد ذِكرُ نبيِّنَا لخصوصيَّة، كما قال: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98].
          وقوله: (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) يحتمل الوجهين السالفَين في الجنَّة والنار، فهي محقَّقةٌ، وفيه: الإقرار بهذه الأمور كلِّها، و(السَّاعَةُ) القطعةُ مِن الزمان لكن لَمَّا لم يكن هناك كواكبٌ تُقَدَّر بها الأزمان سُمِّيت بالساعة. يعني: يوم القيامة.
          وقوله: (اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) أي: استسلمتُ وانقدتُ لأمرك ونهيك، وسلَّمتُ / ورضيتُ وأطعتُ، مِن قولهم: أسلَم فلانٌ لفلانٍ. إذا انقاد وعطفَ عليه، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103].
          وقوله: (وَبِكَ آمَنْتُ) أي: صدَّقت بك وبما أنزلت مِن إخبارٍ وأمرٍ ونهي. وظاهره أنَّ الإيمان ليس بحقيقة الإسلام، وإنَّما الإيمانُ التَّصديقُ. وقال القاضي أبو بكرٍ: الإيمانُ المعرفةُ بالله. والأولُ أشهرُ في كلام العرب. قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: بمصدِّقٍ. إلَّا أنَّ الإسلام إذا كان بمعنى الانقياد والطاعة فقد ينقاد المكلَّف بالإيمانِ فيكون مؤمنًا مسلمًا، وقد ينقاد بغير الإيمان فيكون مسلمًا لا مؤمنًا. قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}الآية[الحجرات:14]. فأثبت لهم الإسلامَ ونفى عنهم الإيمانَ فتقرر أنَّ ما أثبت غير ما نفى، ومَن قال: الإيمان هو الإسلام فهو راجعٌ إلى ذلك.
          وقوله: (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أي: تبرَّأتُ مِن الحول والقُوَّة، وصرفتُ أمري إليك، وأيقنتُ أنَّه لن يصيبني إلَّا ما كتبتَ لي، وفوَّضتُ أمري إليك، ونِعْم المفوَّضُ إليه. قال الفرَّاء: الوكيلُ الكافي.
          وقوله: (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أي أطعتُ أمرك، والمنيب: المقبِل بقلبه إلى الربِّ جلَّ جلاله، فأنا راجعٌ إليك. أي: في تدبير ما فوَّضتُه إليك أو إلى عبادتِك.
          وقوله: (وَبِكَ خَاصَمْتُ) أي: بما آتيتني مِن البراهين، احتججتُ على مَن عاند فيك وكفر، وقمعته بالحُجَّة، وسواء خاصَمَ فيه بلسانٍ أو سيفٍ.
          وقوله: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) يعني: إليك احتكمتُ مع كلِّ مَن أَبَى قَبول الحقِّ والإيمان، لا غيرِك ممَّا كانت الجاهلية تحاكم إليه مِن صنمٍ وكاهنٍ وغيرِ ذلك، فأنت الحكَم بيني وبين مَن خالف ما جئتَ به، وكان صلعم يقول عند القتال: ((اللهُمَّ أنزل الحقَّ)) ويستنصر. وقيل: ظاهرُه لا نحاكمهم إلَّا إلى الله ولا نرضى إلَّا بحكمه. قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]، وقال: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام:114].
          وقوله: (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ...) إلى آخره. هذا مِن باب التواضع والخضوع والإشفاق والإجلال، فإنَّه مغفورٌ له ذلك، وليُقتدى به في أصل الدُّعاء والخضوع وحسن التَّضرع والرَّغَب والرَّهَب، وفي هذا الدُّعاء المعيَّن. وقد كان عليه أفضل الصَّلاة والسلام يقول: ((اللهُمَّ إنِّي أستغفرك مِن عمْدي وخَطَئي وجهلي وظُلمي وكلُّ ذلك عندي)) يُقِرُّ على نفسه بالتقصير. ويقول: ((اللهُمَّ باعِد بيني وبين خطاياي...)) إلى آخره.
          وبهذا رفع الله رسلَه وأنبياءَه أنَّهم مجتهدون في الأعمال لمعرفتهم بعظمة مَن يعبدونه، وأُمَّتُهم أحرى بذلك. والمغفرة: تغطية الذَّنْب، وكلُّ ما غُطِّي فقد غُفر، ومنه: الْمِغْفَر.
          وقوله: (ومَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ) أمر الأنبياء بالإشفاق والدُّعاء إلى الله والرغبة إليه أن يغفر ما يكون مِن غفلةٍ تعتري البشر. وما قدَّم: ما مضى. وما أخَّر: ما يستقبِل. وذلك مثل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] حَمَلَه أهل التفسير _كما نقله عنهم ابن التِّين_ على أنَّ الغفران تَنَاوَلَ مِن أفعاله الماضي والمستقبل.
          وقوله: (وَمَا أَعْلَنْتُ) أي: ما تحرَّك به لسانٌ أو نطق به.
          وقوله: (أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ) أي: أنت الأوَّل والآخر، قاله ابن التِّين.
          وقال ابن بطَّالٍ: يعني: أنَّه قُدِّم في البعث إلى النَّاس على غيرِه صلعم بقوله: (نحن الآخِرون السَّابِقُون) ثمَّ قدَّمه عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضَّلَه به على سائر الأنبياء، فسَبَقَ بذلك الرسل.
          وقوله: (لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي: لا أستطيع تحوُّلًا ولا تصرُّفًا بِنِيَّةٍ ولا فعلٍ ولا قولٍ إلَّا بقوَّتك التي جعلتَ فيَّ أو تجعل، ولا قُوَّةَ لي في شيءٍ مِن أمري إلَّا بما جعلتَ فِيَّ مِن قوَّتك، وكذلك سائرُ الخلق.