التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل النفقة في سبيل الله

          ░37▒ (بابُ: فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ الله تعالى)
          2841- ذكر فيه حديثَ أبي هريرة: (قال النَّبيُّ _صلعم_: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، دَعَاهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ، كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ: أَيْ فُلُ هَلُمَّ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله، ذَاكَ الَّذي لا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ رسولُ الله _صلعم_: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ).
          2842- وحديثَ أبي سعيدٍ: (أَنَّ رَسُولَ الله _صلعم_ قَامَ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا...) الحديثَ إلى قوله: (وَإِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ الله، وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).
          الشَّرح: الحديث الأوَّل سلف في الصَّوم [خ¦1897]، والثَّاني سلف في الزَّكاة [خ¦1465]، وقوله: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ) أراد أن يُشْفِعَ المنفِقُ ما ينفقُه مِنْ دينارٍ أو درهمٍ أو سلاحٍ أو غير ذلك، قال الدَّاوُديُّ: ويقع الزَّوج على الواحد والاثنين، وهو هنا على الواحد، واحتجَّ بقوله _تعالى_: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النجم:45] واعترضه ابن التِّيْنِ فقال: ليس قوله بِبَيِّنٍ، وقد ذكره ابن قُتيبة أيضًا فقال: الزَّوج يقع على الواحد والاثنين.
          وقوله: (أَيْ فُلُ هَلُمَّ) أي يا فلانُ، فرُخِّم كقولك: يا حارِ إذا رخَّمت حارثًا، وكقول الشَّاعر:
في لجة أَمْسِكْ فُلَانًا عَنْ فُلِ
          والعرب تقول في النِّداء: يا فلانُ، وأَيْ فلانُ، وأَفُلانُ.
          ومعنى: (لَا تَوَى) لا ضياع، وقيل: لا هلاك، مِنْ قولك: تَوِيَ المالُ يَتْوَى تَواءً، قال ابن فارسٍ: والتَّوى يُمدُّ ويُقصر وأكثرهم على أنَّه مقصورٌ، ومعنى الكلام أنَّ هذا الرَّجل لا بأس عليه أن يترك بابًا ويدخل آخر.
          و(الرُّحَضَاءَ) في حديث أبي سعيد: العَرق الَّذي أدرَّه عند نزول الوحي عليه، يُقال: رُحِضَ الرَّجلُ إذا أصابه ذلك، فهو مرحوضٌ ورَحيضٌ.
          وقوله: (كَأَنَّ عَلَى رُؤوسِهِمُ الطَّيْرَ) قال الدَّاوُديُّ: يعني أنَّ كلَّ واحدٍ صار كمَنْ على رأسه طائرٌ يريد صيده فلا يتحرَّك لئلَّا يطير به.
          وقوله: (يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ) كذا هو في الأصول، وذكره ابن التِّيْنِ بحذف (حَبَطًا) ثُمَّ قال: هذا محذوفٌ منه، ورُوي تامًّا فذكره، والحَبَطُ: انتفاخ البطن مِنْ داءٍ يصيب الآكلَ مِنْ أكله.
          وفيه كما قال المهلَّب فضلُ الجهاد على سائر الأعمال، وأنَّ للمجاهد أجرَ المصلِّي والصَّائم والمتصدِّق وإن لم يفعل ذلك، ألَا ترى أنَّ باب الرَّيَّان هو للصَّائمين خاصَّةً، وقد قال في هذا الحديث: (يُدْعَى مِنْ كُلِّ بابٍ) فاستحقَّ ذلك بإنفاق قليلٍ مِنْ مال الله في سبيله، ففيه أنَّ الغنيَّ إذا أنفق في سبيل الله أفضل الأعمال، قال: إلَّا أنَّ طلب العلم ينبغي أن يكون أفضل مِنَ الجهاد وغيرِه لأنَّ الجهاد لا يكون إلَّا بعلم حدوده وما أحلَّ الله منه وحرَّم، ألا ترى أنَّ المجاهد متصرِّفٌ بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كلِّه في ميزان العالم الآمر له بالمعروف، والنَّاهي له عن المنكر، والهادي له إلى السَّبيل، فكما أنَّ أجر المسلمين كلِّهم مدخورٌ لرسول الله _صلعم_ مِنْ أجل تعليمه لهم وهدايته إيَّاهم سبيل العلم، فكذلك يجب أن يكون أجرُ العالم فيه أجرُ مَنْ عمل بعلمه.
          وفيه دليلٌ على أنَّ مَنْ دُعي مِنْ أبواب الجنَّة كلِّها لم يكن ممَّن استحقَّ عقوبةً في نارٍ _والله أعلم_ لقول أبي بكرٍ: (ذَلِكَ الَّذِي لَا تَوَى عَلَيْهِ) أي لا هلاك، فلم ينكره رسول الله صلعم، وفيه القول بالدَّليل في أحكام الدُّنيا والآخرة لاستدلال أبي بكرٍ بالدُّعاء له مِنْ كلِّ بابٍ أنَّه لا هلاك عليه، ولتصديق رسول الله _صلعم_ ذلك الاستدلال وتبشيره لأبي بكرٍ أنَّه منهم مِنْ أجل أنَّه أنفق في سبل الله كلِّها أزواجًا كثيرةً مِنْ كلِّ شيءٍ، وروى ابن المُنْذِرِ مِنْ حديث أبي عُبيدة بن الجرَّاح مرفوعًا: ((مَنْ أَنْفَقَ في سبيلِ الله فسبعُ مئةِ ضعفٍ))، ومِنْ حديث خُرَيْمِ بن فَاتِكٍ مرفوعًا مثله، وقد جاء أنَّ الذِّكر وأعمال البرِّ في سبيل الله أفضلُ مِنَ النَّفقة فيه مِنْ حديث معاذ بن أنسٍ الجُهَنيِّ أنَّه قال: ((يضعف الذِّكر والعمل في سبيل الله على تضعيف الصَّدَقة بسبع مئة ضعفٍ)) وعن ابن المسيِّب مثله.