التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حمل الزاد في الغزو

          ░123▒ بَاب: حَمْلِ الزَّادِ فِي الغَزْوِ وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]
          ذكر فيه أربعةَ أحاديثَ:
          2979- أحدها: حديث أسماءَ (أنَّها صَنَعْتْ سُفْرَةَ رَسُولِ الله صلعم فِي بَيْتِ أَبِي بكرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى المَدِينَةِ قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فاربِطِي بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ).
          2980- ثانيها: حديث جابرِ بن عَبْدِ الله ☻ (كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلعم إِلَى المَدِينَةِ).
          2981- ثالثها: حديث سُوَيد بن النُّعْمَانِ ☺ (أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلعم عَامَ خَيْبَرَ، حتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ _وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ_ فَصَلَّوُا العَصْرَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلعم بِالأَطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالسَّوِيقِ، فَلُكْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلعم فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا وَصَلَّيْنَا).
          2982- رابعها: حديث سَلَمة ☺ قَالَ: ((خَفَّتْ أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلعم فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟! فَقَال رَسُولُ الله صلعم: نَادِ فِي النَّاس يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَا بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حتَّى فَرَغُوا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ)).
          الشَّرح: ما ذكره ظاهرٌ في أخذ الزَّاد وتحمُّل ثِقله في الأسفار البعيدة، اقتداءً بخير البريَّة وأكرمِها على ربِّه وعباده وشفيع الأمم كلِّها يوم القيامة، / والآية نزلت عند جماعةٍ مِنَ المفسِّرين في ناسٍ مِنْ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكَّة بغير زادٍ، وقد سلف ذلك في الحجِّ [خ¦1523]، وهو رافعٌ لما يدَّعيه أهل البطالة مِنَ الصُّوفية والمُمَخرِقة على النَّاس باسم التَّوكُّل الَّذي المتزوِّدون أولى به منهم، ولمَّا أملقوا جمع بقايا أزوادهم وجعلهم فيه سواءً، ليس مَنْ كان له بقيَّةٌ منها بأولى ممَّن لم يكن له شيءٌ.
          ففيه أنَّه إذا أصاب النَّاسَ مَخْمَصةٌ ومَجاعةٌ يأمر الإمامُ النَّاس بالمواساة، ويجبرهم عليه على وجه النَّظر لهم بثمنٍ وغيره، وقد استدلَّ به بعض الفقهاء على أنَّه يجوز للإمام عند قلَّة الطَّعام أن يأمر مَنْ عنده طعامٌ يفضُل عن قُوْته أن يخرجه للبيع ويجبره عليه، لما فيه مِنْ صلاح النَّاس، ولم يرَه مالكٌ وقال: لا إجبار فيه.
          وفيه أيضًا أنَّ للإمام أن يحبس النَّاس في الغزو ويصبِّرهم على الجوع وعلى غير زادٍ، ويعلِّلَهم بما أمكن حتَّى يتمَّ قصده.
          وقول أسماءَ: (فَقُلْتُ لِأَبِي بكرٍ وَاللهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي) فيه استشارتها والدها وكانت حينئذٍ عند الزُّبَير.
          و(النِّطاق) شريطةٌ تَشُدُّ بها المرأة وسطها ترفع بها ثيابها وترسل عليها إزارها، ذكره القزَّاز.
          وقال ابن فارسٍ: إنَّه إزارٌ فيه تِكَّةٌ تلبسه النِّساءُ، وقال الدَّاوُديُّ: إنَّه المئزر وهو المِنْطق، وقال الهَرَويُّ: المناطق واحدها: مِنْطقٌ وهو النِّطاق، وهو أن تأخذ المرأة ثوبًا فتلبسَه ثُمَّ تشدَّ إزارها وسطها بحبلٍ ثُمَّ ترسلَ الأعلى على الأسفل، قال: وبذلك سُمِّيتْ أسماء ذاتَ النِّطاقَين، لأنَّها كانت تطارق نِطاقًا على نطاقٍ، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدَهما وتحمل في الآخر الزَّاد إلى رسول الله صلعم وهو في الغار.
          و(الصَّهْبَاء) طرفٌ مِنْ خَيبرَ مِنْ جهة المدينة.
          وقوله: (فَلُكْنَا) هو بضمِّ اللَّام وإسكان الكاف، يُقال: لُكتُ اللُّقمة أَلُوكُها في فمي لَوْكًا.
          و(السَّوِيقُ) دقيقُ القمحِ المقلوِّ والشَّعير أو الذُّرة أو السُّلْت أو الدُّخْن.
          وقوله: (وَشَرِبْنَا) قال الدَّاوُديُّ: ما أراه محفوظًا؛ لأنَّه كان يجري مِنَ المضمضة، ولكن قد لا يبلغ الشُّرب ما تبلغه المضمضة عند أكل السَّوِيق.
          قال: وفيه مِنَ الأحكام عطيَّة المجهول وهِبة الواحد للجماعة، وتعقَّبه ابن التِّينِ فقال: ليس في الحديث ذلك وليس كما ذكر.
          ومعنى (أَمْلَقُوا) قلَّت أزوادهم.
          وفيه إذن الشَّارع في نحر الإبل عند الحاجة إلى ذلك. وفيه استحياؤه مِنْ زيدٍ وتواضعُه أن يدعوَه إلَّا عند الحاجة، وفيه ما كان عمرُ عليه مِنَ الجلَد وحسن النَّظر في الأمور. وفيه الشَّفاعة بفاضل القوم، وفيه إجابة الشَّارع، وفيه الطِّلْبَةُ بالإشارة دون التَّصريح، وبركة دعائِه وثقتُه بالله.
          وفيه الاحتثاء في الأوعية مِنْ غير كيلٍ، وفيه اعتراض الوزير رأيَ الأمير وإن لم يشاوره الأمير، عملًا بقوله: (مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟) لأنَّ الخطَّة تعطيه ذلك، وقد فعل ذلك الصِّدِّيقُ في سَلَب أبي قَتَادة.
          وفيه أنَّ الظَّهر عليه مدار المسافر، لا سيَّما بالحجاز الَّذي الرَّاجل فيه هالكٌ في أغلب أحواله إن لم يأوِ إلى ظهرٍ أو صاحبِ ظهرٍ ليحمل بعض مُؤنته، ألا ترى قول عمرَ: (مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟) يعني أنَّ بقاءهم يسيرٌ لغلبة الهَلَكَة على الرَّاجل، وهذا القول مِنْ عمر أحد ما قيل في النَّهي عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية يوم خَيبرَ، استبقاءً لظهورها، ليَحمِل المسلمين عليها ويحمل أزوادهم.
          وفي قوله: (مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟) دليلٌ على أنَّ الأرض تُقطع مسافتها، قال ابن بَطَّالٍ: وليست تُطوى الأرض كما يدَّعي بعض الخبَّاطين أنَّه يحجُّ في قاصيةٍ مِنْ قواصي الأرض في ثلاثة أيامٍ أو أربعةٍ، ثُمَّ قال: وهذا منتقضٌ مِنْ وجوهٍ، وإنَّما قال صلعم: (فَإنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ) أي: أنَّها تقرب مسافتها بتيسير المشي وقطع ما لا يُرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حَمِد سُراه، و:
عند الصَّباح يَحمَد القومُ السُّرى
          وفيه مِنْ أعلام نبوَّته كثرة القليل حتَّى تزوَّدوا منه أجمعون، قال ابن بَطَّالٍ: فكيف يدَّعي مِنَ البَطَّالين قلب الأعيان بعد رسول الله.