التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب

          (بابٌ)
          2905- ذكر فيه حديثَ عليٍّ ☺: (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ _صلعم_ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي).
          الشَّرح: ادَّعى المهلَّب أنَّ هذا ممَّا خُصَّ به سعدٌ وليس كذلك، ففي «الصَّحيحين» أنَّه فدَّى الزُّبَير بذلك، وقد سلف، ولعلَّ عليًّا لم يسمعه، قال النَّوويُّ: وقد جمعهما لغيرهما أيضًا، والتفدية بذلك جائزةٌ عند الجمهور، وكرهه عمرُ بن الخطَّاب والحسن البصريُّ، وكرهه بعضهم في التَّفدية بالمسلم مِنْ أبويه، والصَّحيح الجواز مطلقًا لأنَّه ليس فيه حقيقة فداءً، وإنَّما هو برٌّ ولطفٌ وإعلامٌ بمحبَّته له، وقد وردت الأحاديث الصَّحيحة بالتَّفدية مطلقًا.
          وأمَّا ما روى أبو أسامة _عن مباركٍ_ عن الحسن: دخل الزُّبَير على رسول الله _صلعم_ وهو شاكٍ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ فقال له _◙_: ((ما تركت أعرابيَّتك بعدُ)) قال الحسن: لا ينبغي أن يفدِّي أحدٌ أحدًا، ورواه المُنْكَدِر عن أبيه قال: دخل الزُّبَير فذكره، فغيرُ صحيحٍ لإرسال الأوَّل وضعف الثَّاني. قال الطَّبَريُّ: هذه أخبارٌ واهيةٌ لا يثبت بمثلها حجَّةٌ لأنَّ مراسيل الحسن أكثرها صُحُفٌ غيرُ سماعٍ، وإذا وصل الأخبار فأكثرُ روايته عن مجاهيلَ لا يُعرفون، والمُنْكَدِر بن محمَّدٍ عند أهل النَّقل لا يُعتمد على نقله، وعلى تقدير الصِّحَّة ليس فيه النَّهي عن ذلك، والمعروف مِنْ قول القائل إذا قال: فلانٌ لم يترك أعرابيَّته أنَّه نسبه إلى الجفاء لا إلى فعل ما لا يجوز، وأعلمه أنَّ غيره مِنَ القول والتَّحيَّة ألطفُ وأرقُّ منه. وسَيَمُرُّ بك شيءٌ مِنْ هذا المعنى في كتاب الأدب إنْ شاء الله، ثُمَّ التَّفدية منه دعاءٌ، وأدعيته مستجابةٌ، وقد يوهم أن يكون فيه إزراءٌ بحقِّ الوالدين، وإنَّما جاز ذلك لأنَّ أبويه ماتا وهما هما، وسعدٌ مسلمٌ، ففديته بهما غير محظورٍ، قاله الخَطَّابيُّ.
          وفيه دِلالةٌ على حرمة الأبوَّة كيف كانت وحقِّها لأنَّه لا يفدِّي إلَّا بذي حرمةٍ ومنزلةٍ، وإلَّا لم تكن بفديةٍ ولا بفضيلةٍ للمفدَّى، ومِنْ هنا قال مالكٌ: مَنْ آذى مسلمًا في أبويه الكافرين عُوقب وأُدِّب بحرمتهما عليه.