التوضيح لشرح الجامع البخاري

أبواب العمرة

          ░░26▒▒ بسم الله الرَّحْمَنِ الرحيم. أَبْوَابُ العُمْرَةِ.
          ░1▒ بَابُ: وُجُوبِ العُمْرَةِ وَفَضْلِهَا.
          وَقال ابنُ عُمَرَ: لَيسَ أَحَدٌ إِلَّا وَعليه حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ. وَقال ابن عَبَّاسٍ: إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللهِ {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَة لِلَّهِ} [البقرة:196].
          1773- وذَكَرَ حديثَ أبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قال: (العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ).
          الشَّرْحُ: العُمْرَةُ في اللُّغة: الزِّيارة، وَقِيلَ لأنَّها مِنْ عِمارة المسجد الحرام، وحديثُ أبي هُرَيرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
          وأثرُ ابن عُمَرَ رواه ابن أبي شَيبَةَ، عن أبي خالدٍ الأحمرِ، عَنِ ابنِ جُرَيجٍ، عن نافعٍ عَنْهُ: ((لَيسَ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلَّا وَعليه حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ))، وأخرجه الحاكِم مِنْ حَدِيثِ إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف وعبد المجيدِ بن عبد العزيز، عَنِ ابنِ جُرَيجٍ مثله بزيادة ((لمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَمَنْ زَادَ على هَذَا فَهُوَ تَطَوُّعٌ وَخَيرٌ))، ثمَّ قال: سندٌ صحيحٌ على شرطهما.
          قلت: وَرُوِيَ مرفوعًا عَنْهُ: ((لَيسَ أَحَدٌ إِلَّا وَعليه حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ))، وسيأتي الكلام عليه في الباب، وأثر ابن عَبَّاسٍ أخرجه الشَّافعيُّ والبَيهَقِيُّ، وصحَّحه الحاكم على شرط مسلمٍ، وابنُ حزمٍ.
          واخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في وجوب العمرة، وكَانَ ابن عُمَرَ وابن عَبَّاسٍ يَقُولُان: هي فرضٌ، وهو قول عطاءٍ وطاوسٍ والحَسَن وابن سِيْرِيْنَ والشَّعْبِيُّ، وإليه ذهب الثَّورِيُّ وَالشَّافعيُّ في أظهر قوليه وأحمد وإسحاق وابن حَبِيبٍ وابن الجَهْمِ، وقال ابنُ مَسْعُودٍ: العمرة تطوُّعٌ، وهو قول أبي حنيفةَ وأبي ثورٍ.
          وقال النَّخَعِيُّ: هي سنَّةٌ، وَهُوَ قَولُ مالكٍ قال: ولا نعلم أحدًا أرخصَ في تركها، احتجَّ الأوَّلون بِقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَة لِلَّهِ} [البقرة 196] أي أقيموا، وإذا كَانَ الإتمام واجبًا، فالابتداء واجبٌ بناءً على أنَّ التَّطوُّع لا يجب إتمامه، لكنَّ عمرة التَّطوُّع يجب إتمامها، وكذا حجُّ التَّطوُّع، والحجُّ لا يُقاس عليه.
          قال المخالِف: وأثر ابن عُمَرَ قد أخرجه البُخَارِيُّ موقوفًا فلا حجَّة فيه، ولو صحَّ رفعُه لكَانَ ذِكرُه لِلعُمْرَةِ مقارِنةً الحجَّ لا يدلُّ على وجوبها، وَإِنَّمَا معناه الحضُّ على هذا الجِنْس مِنَ العبادات لقوله: ((تَابِعُوا بَينَ الْحَجِّ وَالعُمْرَة)).
          وقال الطَّحَاوِيُّ: ليس قول ابن عُمَرَ إنَّها واجبةٌ ما يدلُّ على أنَّها فريضةٌ لأنَّه قد يجوز أن يَقُولُ إنَّهَا واجبةٌ على المسلمينَ وجوبًا عامًّا يقوم به البعض كالجهاد وغيره مِنْ فروض الكفايات، ويدلُّ على هذا قول ابن عُمَرَ: ((إِذَا حَلَلْتُم فَشُدُّوا الرِّحَالَ لِلْحَجِّ وَالعُمْرَة فَإنَّهما أَحَدُ الجِهَادَينِ))، ألا ترى أنَّه شبَّهَهُما بالجهاد الَّذِي يقوم بفرضه بعضُهم، وقوله ◙: ((بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ)) ولم يذكر العمرة، فلو كَانَت فرضًا لذُكرت.
          قلتُ: قد ذُكرت في قصَّة السَّائل الَّذِي سأل رسول الله صلعم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وهو جِبْرِيْلُ ◙، فقال له النَّبيُّ صلعم: ((الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)) إلى أن قال: ((وَتَحُجَّ الْبَيتَ وَتَعْتَمِرَ))، صحَّحه الدَّارَقُطْنِيُّ وغيرُه مِنْ حَدِيثِ عمرَ بن الخطَّاب، وحديث أبي رَزِيْنٍ: ((حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ))، رواه الأربعة، وصحَّحه التِّرْمِذِيُّ وابن حِبَّانَ والحاكم، قال أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجْودَ مِنْهُ ولا أصحَّ مِنْهُ، واحتجُّوا للسُّنَّة بأنَّه نُسُكٌ ليس له وقتٌ معيَّنٌ، فلم يكن واجبًا بالشَّرع كنَفْل الطَّواف.
          وقد سُئِلَ رسول الله صلعم عن العمرة: أواجبةٌ هي؟ قال: ((لَا، وإِن يَعْتَمِرْ خَيرٌ)). قلت: لكنَّه ضعيفٌ، وانفصل بعضهم عن الآية بأنَّ إتمامها لا يكون إلَّا بعد الشُّروع فيها، ونحن نقول: مَنْ شرع فيها وجب إتمامُها، قال ابنُ التِّينِ: وكلُّ ما في ذَلِكَ مِنَ الأخبار فمطعونٌ في سنده، والآية ليست بيِّنةً في الوجوب.
          وَقوله: (الْعُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُمَا) هو مثل قوله: ((الْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَينَهُما)) يريد: ما اجتُنبت الكبائر، قال ابنُ التِّينِ: (إِلَى العُمْرَةِ) يَحْتَمِل أن يكون بمعنى مَعَ كقوله: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النِّسَاء:2] و{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [آل عمران:52].
          وفيه: التَّرغيب في تكرار العمرة، ومالكٌ لا يرى لأحدٍ أنْ يعتمر أكثر مِنْ مرَّةٍ في السَّنَّة للاتِّباع، وقال مُطَرِّفٌ: لا بأس أنْ يعتمر في السَّنَّة مِرارًا، ونحا / إليه ابنُ المَوَّاز، وبه قال أبو حنيفةَ وَالشَّافعيُّ، وقال آخرون: لا يعتمر في شهرٍ أكثر مِنْ عمرةٍ واحدةٍ، حَكَاهُ ابنُ قُدَامَةَ، وعند أحمد: إذا اعتمر فلا بدَّ أن يحلق، أو يقصِّر في عشَرة أيَّام يمكن حلق الرَّأس فيها، قال: وظاهر هذا أنَّه لا يستحبُّ أنْ يعتمر في أقلَّ مِنْ عشَرة أيَّام، وفي رواية الأَثْرَمِ: إنْ شاء اعتمر في كلِّ شهرٍ.
          و(المَبْرُورُ): هو الخالص لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمالٍ حلالٍ، وقال ابنُ التِّينِ: (المَبْرُورُ) مِنَ البرِّ يَحْتَمِل أنْ يريد أنَّ صاحبه أوقعه على وجه البرِّ، وأصلُه ألَّا يتعدَّى بغير حرف الجرِّ إلَّا أنْ يريد بمبرورٍ وصفَ المصدر فيتعدَّى حِينَئذٍ إلى المصدر لأنَّ كلَّ ما لا يتعدى مِنَ الأفعال يتعدَّى إلى المصدر، وذكر ابن فارسٍ: أنَّه متعدٍّ، يُقال: فلان يَبَرُّ ربَّه أيْ يطيعُه، وأصله بَرِرْتُ بكسر الرَّاء، فعلى هذا يبرُّ حجَّه، أي يخلِّصُه مِنَ الرَّفث وشبهه.
          وَقوله: (لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) يريد أنَّ ما دونها ليس بجزاءٍ له، وإن كَانَت العمرة وغيرها مِنْ أفعال البرِّ جزاؤها تكفير الذُّنوب فإنَّ الحجَّ المبرور لا يقتصر لصاحبه مِنَ الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بدَّ أنْ يبلغ به دخول الجنَّة، وَقِيلَ: إنَّه أراد حجَّ النَّافلة.