التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه

          ░164▒ بَاب: مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلَافِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ.
          وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
          3038- ذكر فيه حديث أبي موسى ☺: بعث النَّبيُّ صلعم معاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا).
          3039- وحديث البراء: جَعَلَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى الرَّجَّالةِ يَوْمَ أُحُدٍ _وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا_ عَبْدَ الله بن جُبَيْرٍ فَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ...) الحديث بطوله.
          الشَّرح: التَّنازع: هو الاختلاف، وهو سبب الهلاك في الدُّنيا والآخرة، لأنَّ الله ╡ قد عبَّر في كتابه بالخلاف الَّذي قضى به على عباده عن الهلاك في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118] ثُمَّ قال: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فقال قومٌ خلقهم للخلاف، وقال آخرون: خلقهم ليكونوا فريقين في الجنَّة وفي السَّعير مِنْ أجل اختلافهم، وهذا كثيرٌ في القرآن، وقد أخبر تعالى أنَّ مع الخلاف يكون الفشل، وهو الخذلان والضَّعف والكسل، فيتمكَّن العدوُّ مِنَ المتخالفين، لأنَّهم كانوا مدافعين كلُّهم دفاعًا واحدًا فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكَّن العدوُّ.
          وفي حديث عبد الله بن جُبَيْرٍ معاقبةُ الله تعالى على الخلاف، وعلى ترك الائتمار لرسوله والوقوف عند قوله، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور:63].
          والرِّيح: القوَّة، وقال أبو إسحاق: فشل إذا هاب أن يتقَّدم جُبنًا، وقال مجاهدٌ: ({رِيحُكُمْ}) نصركم، وقيل معناه: دوَلُهم.
          وبعثُه معاذًا وأبا موسى فيه تأميرُ أفاضل الصَّحابة وتوليةُ العلماء.
          ومعنى (يسِّرَا) خذا بما فيه التَّيسير، ومعنى (لَا تُنَفِّرَا) لا تقصدا إلى ذكر ما فيه الشِّدَّة.
          (وَتَطَاوَعَا) تحابَّا.
          وفي قوله: (تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ) دِلالةٌ على جواز الإغياء في الكلام. قال الخَطَّابيُّ: وهو مثلٌ يريد به الهزيمة، يقول: إنْ رأيتمونا قد زُلنا عن مكاننا وولَّينا منهزمين فلا تبرحوا أنتم، وهذا كقوله: فلانٌ ساكِنُ الطَّير، إذا كان وَقورًا هادئًا، وليس هناك طيرٌ، وأيضًا فالطَّير لا يقع إلَّا على الشَّيء السَّاكن، ويُقال للرَّجل إذا أسرع وخفَّ: قد طار طيرُه، وقال الدَّاوُديُّ: معناه إن قُتلنا وأكلت الطُّيور لحومَنا فلا تبرحوا مكانكم، قال: وفيه دليلٌ أنَّه يريد أصحابه دونه، لأنَّه إن قُتل لم يبق مَنْ تلبثون لمُقامه.
          و(الرَّجَّالة) جمع راجلٍ، وهم مَنْ لا خيلَ لهم، ومعنى (أَوْطَأْنَاهُمْ) مشينا عليهم وهم قتلى بالأرض، ومعنى (يَشْتَدِدْنَ) يعدون، وفي نسخةٍ: <يشردن>، وفي رواية أبي الحسن: <يسندن>، أي: يمشين في سند الجبل يُرِدن رُقِيَّه.
          وفيه بيان أنَّه لم ينهزم كلُّ أصحابه، ونهيه عن جواب أبي سفيان تَصاونٌ عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وعن خصام مثله أيضًا، وإجابة عمرَ بعد نهيه إنَّما هي حمايةٌ للظَّنِّ برسول الله صلعم أنَّه قُتل، وأنَّ بأصحابه الوَهن، فليس في هذا عصيانٌ له في الحقيقة، وإن كان في الظَّاهر، فهو ممَّا يؤجر به، / وأمره صلعم لجوابه، لأنَّه بُعث بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلمَّا سمع هذا الكلام لم يسعه السُّكوت عنه حتَّى يُعليَ كلمة الله، ثُمَّ عرَّفهم في جوابه أنَّهم يقرُّون أنَّ الله أعلى وأجلُّ، لقولهم: إنَّما نعبدُهم {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فلم يراجعه أبو سفيانَ ولا نقض عليه كلامه اعترافًا بما قال، فلمَّا ذكر العزَّى أمر صلعم بمجاوبته، وعرف في جوابه أنَّها ومثلَها مِنَ الأصنام لا موالاة لها ولا نصر، فعرف أنَّ النَّصر مِنْ عند الله وأنَّ الموالاة والنَّصر لا تكون مِنَ الأصنام فبكَّته بذلك ولم يراجعه.
          وقوله: (قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ) أي ظهرت، وأسوُقٌ: جمع ساقٍ، وضبطه بهمز الواو على معنى أنَّ الواو إذا انْضمَّت جاز همزُها.
          وفيه جواز النَّظر إلى أسوق المشركات ليُعلم حال القوم لا لشهوةٍ.
          وقوله: (فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ) أي: آخرهم، قاله أبو عُبيدٍ.
          وقوله: (قَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ) إرهابٌ عليه لمَّا ظنَّ به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنَّه قد مضى الرَّسول وسادة أصحابه، فعرَّفه أنَّهم أحياءٌ، وأنَّه قد بقي له ما يسوءُه، يعني: يوم الفتح.
          وقوله: (فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ) قال غيره: خمسةٌ وستُّون، منهم أربعةٌ مِنَ المهاجرين، وقال مالكٌ: قُتل مِنَ الأنصار سبعون، ومِنَ المهاجرين أربعةٌ.
          وقوله: (وكَانَ النَّبِيُّ صلعم وَأَصْحَابُهُ أَصَاب مِن الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا) ذكر الشَّيخ أبو محمَّدٍ في «جامع مختصره» أنَّه قُتل مِنَ المشركين يوم بدرٍ خمسون، وقال مالكٌ: كان الأسرى شبهًا بمَنْ كان قُتل مِنَ المشركين أربعةٌ وأربعون رجلًا.
          وقول عمرُ لأبي سفيان: (كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ اللهِ) فيه قلَّة صبر عمرَ عند قول الباطل، وقد نهى الشَّارع عن جواب أبي سفيان، لكنَّ عمرَ لم يرَ العِصيان كما سلف، وإنَّما أنكر قول الباطل، ورُوي أنَّ أبا سفيان لمَّا أجابه عمرُ قال له: أنشُدك اللهَ أمحمَّدٌ حيٌّ؟ قال: اللَّهمَّ نعم، وهو ذا يسمعك، قال: أنت أصدق عندنا مِن ابن قَمِئَة، وكان ابن قَمِئَة قال لهم: قتلتُه.
          وقوله: (الْحَرْبُ سِجَالٌ) أي: دولٌ، مرَّةً لهؤلاء ومرَّةً لهؤلاء، وأصله أنَّ المستقِين بالسَّجل _وهو الدَّلو_ يكون لكلِّ واحدٍ منهم سِجالٌ.
          وقوله: (سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) يعني أنَّهم جدَّعوا أنوفهم وشقُّوا بطونهم، وكان حمزةُ مُثِّل به.
          وقوله: (لَمْ آمُرْ بِهَا) قال الدَّاوُديُّ: يعني أنَّه لا يأمر بالأفعال الخبيثة الَّتي تَرِدُ على فاعلها نقصًا.
          وقوله: (وَلَمْ تَسُؤْنِي) يريد: إنَّكم عدوِّي، وقد كانوا قتلوا ابنه يوم بدرٍ، وخرجوا لينالوا العير الَّتي كان بها، فوقعوا في كفَّار قريشٍ وسلمت العيرُ.
          وقوله: (اعْلُ هُبَلْ) يريد صنمًا لهم، أي: علا حزبُك، وفي رواية: أَعْلَى هُبَلْ ارْقَ الجَبَلْ.
          يعني: علوت حتَّى صرت كالجبل العالي، ذكرها الدَّاوُديُّ، قال: ويحتمل أن يريد بقوله ارقَ الجبل: تعيير المسلمين حين انحازوا إلى الجبل.
          و(الْعُزَّى) صنمٌ كانوا يعبدونه، قاله الضَّحَّاك وأبو عُبيدٍ، وجزم به ابن التِّيْنِ وابن بَطَّالٍ، وقال غيرهما: هي شجرةٌ لغَطَفَان كانوا يعبدونها، وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: بعث رسول الله صلعم خالد بن الوليد إلى العزَّى يقطعها.
          والمولى: النَّاصر، فإن قلت: قوله: (اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ) أليس الله تعالى مولى الخلق كلِّهم؟ قلت: المولى هنا بمعنى الوليِّ، والله تعالى يتولَّى المسلمين بالنَّصر ويخذل الكفَّار، نبَّه عليه ابن الجَوزيِّ.