التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة

          ░98▒ باب: الدُّعاء على المشركين بالهزيمة والزَّلزلة.
          ذكر فيه خمسةَ أحاديثَ:
          2931- أحدها: حديث هشامٍ عن محمَّدٍ عن عَبيدة عن عليٍّ: لمَّا كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلعم: (مَلَأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَن الصَّلَاةِ الوُسْطَى حتَّى غَابَت الشَّمْسُ).
          2932- ثانيها: حديث الأعرج عن أبي هريرةَ قال: كان النَّبيُّ صلعم يدعو في القنوت: (اللَّهمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، إلى أن قال: اللَّهمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ...) الحديث.
          2933- ثالثها: حديث ابن أبي أَوفى: دعا رسول الله صلعم يوم الأحزاب على المشركين قال: (اللَّهمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ سَرِيعَ الحِسَابِ اللَّهمَّ اهْزِم الأَحْزَابَ اللَّهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ).
          2934- رابعها: حديث عبد الله _وهو ابن مسعودٍ_ قال: (كان النَّبيُّ صلعم يصلِّي في ظلِّ الكعبة)، الحديثَ، وفيه: (اللَّهمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) ثلاثًا، ثُمَّ ذكر الخلاف في أميَّة بن خَلَفٍ أو أُبيِّ بن خَلَفٍ قال: والصَّحيح أميَّة.
          2935- خامسها: حديث عائشةَ أنَّ اليهود دخلوا على النَّبيِّ صلعم فقالوا: السَّام عليك، فلعنْتُهم، فقال: (مَا لَكِ؟) قالت: أوَلم تسمع ما قالوا؟ قال: (أفَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ).
          الشَّرح: في حديث عليٍّ دلالةٌ على أنَّ الصَّلاة الوسطى هي العصر، وهو الَّذي صحَّت به الأحاديث وإن نصَّ الشَّافعيُّ على أنَّها الصُّبح، وقد جمعتُ فيها جزءًا مفردًا بذكر أقوال العلماء فيها، قال المهلَّب: هي الصُّبح على الحقيقة، والعصر بالتَّشبيه بها.
          و(هشامٌ) المذكور في إسناده قال الأَصيليُّ: وهو في سِيَرِه هشامٌ، وهو ابن حسَّان، وهو مطعونٌ فيه، ثُمَّ قال: وقال أبو الحسن: إسناد هذا الحديث مِنْ أعجب الأسانيد عن عليٍّ. وقيل: إنَّ هذا الحديث كان قبل نزول صلاة الخوف.
          وقال ابن بَطَّالٍ: هذا شغلٌ لا يمكن تركُ القتال له على حسب الاستطاعة مِنَ الإيماء والإقبال والإدبار والمطاعَنة والمسايفة، لكنْ لهذا وجهان:
          أحدهما: أنَّ صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفي الآية بها إباحة الصَّلاة على حسب القدرة والإمكان، وفي هذا الوقت لم يكن مباحًا لهم إلَّا الإتيانُ بها على أكمل أوصافها، فلذلك شُغلوا عنها بالقتال، فهذا الشُّغل كان شديدًا عليهم حتَّى لا يمكن أحدًا منهم أن يشتغل بغير المدافَعة والمقاتلة.
          ثانيهما: أن يكونوا على غير وضوءٍ، فلذلك لم يمكنهم القتال لطلب الماء وتناول الوضوء، لأنَّ الله تعالى لا يقبل صلاةً بغير طُهور ولا صلاةَ مَنْ أحدث حتَّى يتوضأ.
          وأمَّا دعاؤه صلعم على قومٍ ودعاؤه لآخرين بالتَّوبة، فإنَّما كان على حسب ما كانت ذنوبهم في نفسه، فكان يدعو على مَنِ اشتدَّ أذاه على المسلمين، وكان يدعو لِمَنْ يرجو نزوعه ورجوعه إليهم، كما دعا لدوسٍ حين قيل له: إنَّ دوسًا قد عصت وأبت، ولم يكن لهم نِكايةٌ ولا أذًى، فقال: ((اللَّهمَّ اهدِ دوسًا وائتِ بهم)) وأمَّا هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأُجيبت دعوته فيهم، وقد سلف هذا المعنى في أوَّل الاستسقاء [خ¦1006]، وسنزيده وضوحًا في كتاب الدُّعاء في باب: الدُّعاء على المشركين [خ¦6397].
          ومعنى (اشْدُدْ وَطْأَتَكَ) بأسك وعقوبتك، أو أخذتك الشَّديدة، وقال الدَّاوُديُّ: الوطأة: الأرض وقال ابن فارسٍ: الأخذة.
          وقوله: (اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) دعاءٌ عليهم ألَّا يسكنوا ولا يستقرُّوا، مأخوذٌ مِنَ الزَّلزلة، وهي اضطراب الأرض، وقال الدَّاوُديُّ: أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللِّقاء فلا يثبتوا.
          وحديث السَّلا يَستدلُّ به مالكٌ وغيره ممَّن يرى بطهارة روث المأكول لحمه، وانفصل مَنْ قال بنجاسته بأنَّه لم يكن تُعبِّد بذلك، وأيضًا فليس في السَّلا دمٌ فهو كعضوٍ منها، فإن قلت: هو ميتةٌ لأنَّ ناحرها وثنيٌّ مشركٌ، فالجواب أنَّ ذلك قبل تحريم ذبائح أهل الأوثان، كما كانت تجوز مناكحتهم، ورُوي أيضًا أنَّه كان مع الفرث والدَّم ولكنَّه كان قبل التَّعبُّد بتحريمه.
          وقول أبي إسحاق: (ونسيت السَّابع) قال: هو عُمارة بن الوليد، وقال البُخَاريُّ: (والصَّحيح: أميَّة) وهو كما قال، لأنَّ أُبيَّ بن خلفٍ قتله الشَّارع بيده يوم أُحدٍ بعد يوم بدرٍ.
          والقَلِيب مذكَّرٌ البئر قبل أن يُطوى، فإذا طُويت فهي الطُّوى، وقد سلف هذا الحديث وما قبله في مواضعه، لكنَّا نبهنا على بعض ما أسلفناه لطول العهد به.
          وحديث عائشة ذكره في الاستئذان مِنْ حديث ابن عمر وأنسٍ، وللنَّسَائيِّ عن أبي بَصْرة قال صلعم: ((إنِّي راكبٌ إلى اليهود، فمَنِ انطلق معي فإنْ سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم)). ولابن ماجَهْ مِنْ حديث ابن إسحاق عن أبي عبد الرَّحمن الجُهَنيِّ _وصُحبتُه مختلفٌ فيها_ مثله، ولابن حِبَّان مِنْ حديث أنسٍ مرفوعًا: ((أتدرون ما قال؟)) قالوا: سلَّم قال: ((لا؛ إنَّما قال: السَّام عليكم، أي: تسأمونَ دينكم، فإذا سلَّم عليكم رجلٌ مِنْ أهل الكتاب فقولوا: وعليك)).
          قلت: ويعنُون بالسَّامِ الموتَ.
          وجاء في الحديث: ((يُستجاب لنا فيهم ولا يُستجاب لهم فينا))، ولمَّا أُمر أن يباهلهم أخذ بيد حسنٍ وحسينٍ وقال لفاطمة: ((اتبعينا)) فرجع اليهود ولم يباهلوه، قال ابن عبَّاسٍ: لو خرجوا ما وجدوا أهلًا ولا ولدًا.
          قال الخَطَّابيُّ: ورواية عامَّة المحدثين بإثبات الواو، وكان ابن عُيينة يرويه بحذفها / وهو الصَّواب، وذلك أنَّه إذا حذفها صار قولهم الَّذي قالوه بعينه مردودًا عليهم، وبإدخالها يقع الاشتراك معهم والدُّخول فيما قالوه، لأنَّ الواو حرف العطف ولاجتماعٍ بين الشَّيئين.
          وفي رواية يحيى عن مالكٍ عن ابن دينارٍ: ((عليك)) بلفظٍ الواحد، وقال القُرْطُبيُّ: الواو هنا زائدةٌ، وقيل: للاستئناف، وحذفها أحسن في المعنى، وإثباتها أصحُّ روايةً وأشهر، وقال أبو محمَّدٍ المُنْذرِيِّ: مَنْ فسَّر السَّام بالموت فلا تبعد الواو، ومَنْ فسَّره بالسَّآمة فإسقاطها هو الوجه.
          وكان قَتَادة فيما حكاه ابن الجَوزيِّ يمدُّ ألف السَّآمة.
          وذهب عامَّة السَّلف وجماعة الفقهاء إلى أنَّ أهل الكتاب لا يُبدَؤون بالسَّلام حاشا ابن عبَّاسٍ وصُدَيَّ بن عَجْلان وابن مُحَيْريزٍ فإنَّهم جوَّزوه ابتداءً، وهو وجهٌ لبعض أصحابنا حكاه الماوَرْديُّ، ولكنَّه قال: يقول عليك، ولا يقول: عليكم بالجمع، وحُكي أيضًا أنَّ بعض أصحابنا جوَّز أن يقول: وعليكم السَّلام فقط، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته، وهو ضعيفٌ مخالفٌ للأحاديث.
          وذهب آخرون إلى جواز الابتداء للضَّرورة أو لحاجةٍ تعنُّ له إليه أو لذمامٍ أو نسبٍ، ورُوي ذلك عن إبراهيمَ وعلقمةَ، وقال الأوزاعيُّ: إن سلَّمتُ فقد سلَّم الصَّالحون، وإن تركتُ فقد ترك الصَّالحون، وتأوَّل لهم قوله: ((لَا تَبدَؤوهُمْ بالسَّلَامِ)) أي: لا تبدؤوهم كصنيعكم بالمسلمين.
          واختُلف في ردِّ السَّلام عليهم، فقالت طائفةٌ: ردُّه فريضةٌ على المسلمين والكفَّار، وهذا تأويل قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النِّساء:86].
          قال ابن عبَّاسٍ وقَتَادة في آخرين: هي عامَّةٌ في الرَّدِّ على المسلم والكافر، وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} يقول للكافر: وعليكم، قال ابن عبَّاسٍ: مَنْ سلَّم عليك مِنْ خلق الله تعالى فارددْ عليه وإن كان مجوسيًّا، ورُوي أنَّه صلعم لمَّا رأى عبد الله بن أُبيٍّ جالسًا نزل فسلَّم عليه، وردَّ بأنَّه كان يرجو إسلامه.
          وروى ابن عبد البرِّ عن أبي أُمَامة الباهِليِّ أنَّه كان لا يمرُّ بمسلمٍ ولا يهوديٍّ ولا نَصرانيٍّ إلَّا بدأه بالسَّلام، وعن ابن مسعودٍ وأبي الدَّرداء وفَضَالَة بن عُبيدٍ أنَّهم كانوا يبدؤون أهل الكتاب بالسَّلام، وكتب ابن عبَّاسٍ إلى كتابيٍّ: السَّلام عليك، وقال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت عليه، وقيل لمحمَّد بن كعبٍ: إنَّ عمر بن عبد العزيز يردُّ عليهم ولا يبتدئهم، فقال: ما أرى بأسًا أن يبدأهم بالسَّلام لقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف:89] وفيه ردٌّ لما سلف.
          وقالت طائفةٌ: لا يردُّه على الكتابيِّ، والآية مخصوصةٌ بالمسلمين وهو قول الأكثرين، وعن طاوسٍ يقول: علاك السَّلام أي ارتفع عنك، واختار بعضهم كسر السِّين مِنَ السِّلام أي الحجارة.
          فرعٌ: لو تحقَّقنا قولهم السَّلام، فهل يُقال: لا يمتنع الرَّدُّ عليهم بالسَّلام الحقيقي كالمسلم، أو يُقال بظاهر الأمر، فيه تردُّدٌ لتعارض اللَّفظ والمعنى.
          فرعٌ: عن مالكٍ: إن بدأت ذمِّيًّا على أنَّه مسلمٌ ثُمَّ عرفته فلا تستردَّ منه السَّلام، ونقل ابن العربيِّ عن ابن عمر أنَّه كان يستردُّه منه فيقول: ارددْ عليَّ سلامي.
          فائدةٌ: أدخل بعضهم هذا الحديث في باب: مَنْ سبَّ رسول الله صلعم ولا وجه له كما نبَّه عليه ابن عبد البرِّ، وسيكون لنا عودةٌ إلى ذلك في كتاب الأدب [خ¦6254] [خ¦6256].
          فرعٌ: اختُلف في تكنية أهل الكتاب فكرهه مالكٌ، وأجازه ابن عبد الحكم وغيره، واحتجَّ بقوله صلعم: ((انزل أبا وهبٍ)).