التوضيح لشرح الجامع البخاري

→كتاب مواقيت الصلاة←

          ░░9▒▒ كِتَابُ مَواقيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِها.
          وَقَوْلِهِ تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ على الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ.
          521- 522- روى إسماعيل القاضي في «أحكامه» في هذِه الآية من طريق حُمْرَان عن عثمان مرفوعًا: (مَنْ عَلِمَ أنَّ الصَّلَاةَ عَلَيهِ حقًّا يقينًا واجبًا مكتوبًا دخلَ الجنَّةَ).
          وعن عِكرمةَ عن ابن عبَّاسٍ: {كِتَابًا مَوْقُوْتًا}: موجبًا، وكذا رواه مِن طرقٍ.
          وقوله: (وقَّتَه عَلَيْهِمْ) قال ابن التِّين: رُويناه عن البخاريِّ بالتَّشديد، وهو في اللُّغة بالتَّخفيف، ويدلُّ على صحَّته موقوتًا إذ لو كان مشدَّدًا لكان مؤقَّتًا. تقول: وقَّته فهو موقوتٌ إذا بيَّن للفعل وقتًا يُفعل فيه. والمواقيت جمع ميقاتٍ، وهو الوقت المضروب للفعل والموضع.
          ثمَّ ذكر البخاريُّ بإسناده إلى ابن شهابٍ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا...) الحديث بطوله. وأخرجه في بدء الخلق وغزوة بدرٍ. وأخرجه مسلمٌ وأبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجه، وهو أوَّل حديثٍ في «الموطَّأ» وطرَّقه البخاريُّ.
          وحديث صلاته في الوقتين أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ وغيرهما، وله طرقٌ، وفي «الصَّحيح» ما يشهد له. إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدها: قوله: (أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) أي: يومًا ما، لا أنَّ ذلك كان سجيَّته كما كانت ملوك بني أميَّة تفعل لاسيما العصرَ. فقد كان الوليد بن عُقبةَ يؤخِّرها في زمن عثمان، وكان ابن مسعودٍ يُنكر عليه.
          وقال عطاء: أخَّر الوليد مرَّةً الجمعةَ حتَّى أمسى، وكذا كان الحجَّاجُ يفعل. ثمَّ إنَّه أخَّرها عن الوقت المستحبِّ المرغَّب فيه لا عن الوقت، ولا يُعتقد ذلك فيه لجلالته. وإنكار عروة عليه، إنَّما وقع لتركه الوقت الفاضل الَّذي صلَّى فيه جبريلُ وهو وقت النَّاس، ففيه المبادرة بالصَّلاة في وقتها الفاضل.
          ثانيها: هذه الصَّلاة المؤخَّرة كانت العصر كما ذكره في المغازي. وهذِه الواقعة كانت بالمدينة، وتأخير المُغيرَة كان بالعراق كما صرَّح به هنا. وفي رواية: بالكوفة.
          ثالثها: قام الإجماع على عدم تقديم الصَّلاة على وقتها إلا شيئًا شاذًّا، رُوي عن أبي موسى وبعض التَّابعين، بل صحَّ عن أبي موسى خلافه.
          رابعها: قوله: (أَلَيْسَ قَدْ عَلَمْتَ) كذا الرِّواية، وهي جائزةٌ، إلَّا أنَّ المشهور في الاستعمال الصَّحيح: ألستَ، نبَّه عليه بعض فضلاء الأدب.
          خامسها: قوله: (فَصَلَّى، فَصَلَّى) ذهب بعضهم إلى أنَّ الفاء هنا بمعنى الواو؛ لأنَّه صلعم إذا ائتمَّ بجبريلَ يجب أن يكون مصلِّيًا بعدَه، وإذا حُملت الفاء على حقيقتها وجب أنْ يكون مصلِّيًا معه، وهذا ضعيفٌ؛ والفاء للتعقيب، والمعنى: أنَّ جبريل كلَّما فعل فعلًا تابعه النَّبِيُّ صلعم، وهو أولى مِن الواو ولأنَّ العطف بالواو يحتمل معه أن يكون الشَّارع صلَّى قَبل جبريلَ، والفاء لا تحتمل ذلك فهي أبعد مِن الاحتمال، وأبلغ في البيان.
          سادسها: لم يذكر هنا أوقات الصَّلاة، وإنَّما ذكر عددها لأنَّه كان معلومًا عند المخاطب فأبهمَه.
          سابعها: قوله: (بِهَذَا أُمِرْتُ؟) رُوي بفتح التَّاء على الخطاب للشَّارع، وبالضمِّ على أنَّه إخبارٌ مِن جِبريلَ عن نفسه أي: الَّذي أمرني الله أن أفعله هو الَّذي فعلته.
          قَالَ ابن العربيِّ: نزل جبريلُ إلى الشَّارع مأمورًا مكلَّفًا بتعليمه لا بأصل الصَّلاة؛ لأنَّ الملائكة وإن كانوا مكلَّفين فبغير شرائعنا، ولكنَّ الله كلَّف جبريلَ الإبلاغ والبيان كيف ما احتيج إليه قولًا وفعلًا.
          وأقوى الرِّوايتين: فتح التَّاء، أي: الَّذي أُمرتَ به مِن الصَّلاة البارحة مجملًا هذا تفسيره اليوم مفصَّلًا. وبهذا يتبيَّن بطلان مَن يقول: إنَّ في صلاة جبريلَ به جواز صلاة المعلِّم بالمتعلِّم، والمفترض خلف المتنفِّل.
          ثامنها: قوله: (فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تَحَدِّثُ به) ظاهره الإنكار كما قَالَ القرطبيُّ؛ لأنَّه لم يكن عندَه خبرٌ / مِن إمامة جبريلَ إمَّا لأنَّه لم يبلغه أو بلغَه فنسيه، وكلُّ ذلك جائزٌ عليه.
          قَالَ: والأَولى عندي أنَّ حجَّة عرُوةَ عليه إنَّما هي فيما رواه عن عائشةَ مِن أنَّه صلعم كان يصلِّي العصر والشَّمس طالعةٌ في حجرتها قبل أن تظهر، وذكرَ له حديث جبريلَ موطِّئًا له ومعلِّمًا بأنَّ الأوقات إنَّما ثبت أصلها بإيقاف خبر النَّبِيِّ صلعم عليها.
          تاسعها: قوله: (أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ) قَالَ ابن التِّين: هي ألف الاستفهام دخلت على الواو، فكان ذلك تقريرًا. قَالَ النَّوويُّ: والواو مفتوحة و(إن) بفتح الهمزة وكسرها، والكسر أظهر، كما قاله صاحب «الاقتضاب» لأنَّه استفهامٌ مستأنفٌ، إلَّا أنَّه ورد بالواو، والفتح على تقدير: أوَعلمتَ، أوَحدِّثتَ أنَّ جبريلَ نزل؟
          عاشرها: قوله: (كَذلك كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أبيهِ) فيه: دلالةٌ على أنَّ الحجَّة في الحديث المسند دون المقطوع لقوله: (كَذَلكَ كَانَ بَشِيْرٌ) لأنَّ عُروةَ كان قد أخبر أنَّ جبريل أقام للنَّبيِّ صلعم وقت الصَّلاة، فلم يقنع بذلك مِن قوله إذ لم يُسند له ذلك، فلمَّا قَالَ: اعلم ما تُحدِّث به جاء بالحجَّة القاطعة فقال: (كذلك كان بشيرٌ)، وفي رواية: <سمعتُ> وفي أخرى: <حَدَّثَني بَشِيْرٌ>. و(بَشير): بفتح أوله، واسم (أبي مسعودٍ): عُقبةَ بن عمرٍو البدريِّ الأنصاريِّ، بشيرٌ: والد عبد الرَّحمن، قيل: إنَّ له صحبة، وأدرك النَّبِيَّ صلعم صغيرًا، وذكره مسلمٌ في الطبقة الأولى مِن التَّابعين، وقال: وُلد في حياة الشَّارع، روى له الجماعة إلَّا التِّرمذيَّ، وشهد صفِّين مع عليٍّ.
          الحادي عشر: قوله: (قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ يُصَلِّي العَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلمٌ والأربعة.
          والحُجرة: الدَّار، وكلُّ ما أحاط به حائطٌ فهو حجرةٌ، مِن حجَرت أي: منَعت، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنع مَن دَخلها أن يُوصل إليه ومِن أن يُرى، ويُقال لحائط الحجرة: الحِجار.
          وقولها: (قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) أي: تعلو وتصير على ظهر الحُجرة، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي: ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وقال النَّابغة:
وَإِنَّا لَنَرْجُوْ فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا
          أي: عُلُوًّا ومُرْتَقًى، يُقال: ظهر الرَّجل إلى فوق السَّطح: علا فوقه، قيل: وإنَّما قيل له ذلك؛ لأنَّه إذا علا فوقه ظهر شخصه لمَن تأمَّله. وقيل: معناه أن يخرج الظِّلُّ مِن قاعة حجرتها فيذهب، وكلُّ شيء خرج فقد ظهر، قَالَ أبو ذُؤَيبٍ:
وعَيَّرَنِي الوَاشُوْنَ أَنِّيْ أُحِبُّها                     وتِلْكَ شَكاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُها
          أي: ذاهبٌ. والتَّفسير الأوَّل أقربُ وأليق بظاهر الحديث؛ لأنَّ الضَّمير في قوله: (تظهر) إنَّما هو راجعٌ إلى الشَّمس ولم يتقدَّم للظلِّ ذكرٌ في الحديث، ويأتي لذلك زيادةٌ إن شاء الله في باب: وقت العصر.
          الثاني عشر: في فوائد الحديث ملخَّصةً:
          منها: المبادرة بالصَّلاة في الوقت الفاضل.
          ومنها: دخول العلماء على الأمراء، إذا كانوا أئمَّة عدلٍ.
          ومنها: إنكار العلماء على الأمراء ما يخالف السُّنَّة.
          ومنها: جواز مراجعة العالم لطلب البيان.
          ومنها: الرُّجوع عند التَّنازع إلى السُّنَّة، فإنَّها الحجَّة والمقنَع.
          ومنها: أنَّ الحجَّة في المسند دون المقطوع كما سلف.
          ومنها: قصر البُنيان والاقتصاد فيه؛ مِن حيث إنَّ جدار الحجرة كان قصيرًا، قَالَ الحسن: كنت أدخل بيوت النَّبِيِّ صلعم وأنا محتلمٌ وأنا أسقفها بيدي، وذلك في خلافة عثمانَ ☺.