التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التحريض على الرمي

          ░78▒ (بابُ: التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْيِ، وَقَوْلِ اللهِ _╡_: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]).
          2899- ذكر فيه حديثَ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ: (مَرَّ النَّبِيُّ _صلعم_ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلانٍ، فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: ارْمُوا وأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ).
          2900- وحديثَ أبي نُعَيْمٍ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحمن بْنُ الغَسِيلِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_ يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ).
          الشَّرح: أمَّا الآية فالقوَّة المذكورة فيها هو الرَّمي، كما أخرجه مسلمٌ مِنْ حديث عُقبة بن عامرٍ قال: سمعت رسول الله _صلعم_ يقول وَهو على المنبر: (({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ألَا إنَّ القوَّةَ الرَّمي ثلاثًا)) وقال ابن المُنْذِرِ أيضًا: إنَّه ثابتٌ، والقوَّة: التَّقوِّي بإعداد ما يحتاج إليه مِنَ الدُّروع والسُّيوف وسائر آلات الحرب، إلَّا أنَّه لمَّا كان الرَّمي أنكأها في العدوِّ وأنفعها على ما هو مشاهدٌ فَسَّرها به وخصَّها بالذِّكر وأكَّدها ثلاثًا.
          وفيه أيضًا مِنْ هذا الوجه مرفوعًا: ((مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا)) وفي رواية الحاكم ((فَهِيَ نعمةٌ كفَرَها)) ثُمَّ قال: صحيح الإسناد، ولأبي داود: ((إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْجَنَّةِ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ به، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ، فَارْمُوا وارْكَبُوا، وأَنْ تَرْمُوا أحبُّ إليَّ منْ أنْ تَرْكَبُوا، ليسَ مِنَ اللهوِ إلَّا ثلاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجل فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا أَوْ قَالَ كَفَرَهَا)) وللتِّرمِذيِّ مِنْ طريقٍ منقطعةٍ: ((أَلا إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمُ الأرْضَ، وَسَتُكْفَوْنَ الْمُؤْنَةَ، فَلا يَعْجِزَنَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِسَهْمِه)).
          وحديث سَلَمة مِنْ أفراده، وفي روايةٍ للحاكم: ((فَلَقَدْ رَمَوْا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى السَّوَاءِ مَا نَضَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا)) وقال في أوَّله: ((حَسَنٌ هَذَا اللهو)) مرَّتين أو ثلاثًا، ثُمَّ قال: صحيح الإسناد، وروى ابن مُطَيْرٍ في كتاب «الرَّمي» بإسناده عن أبي العالية عن ابن عبَّاسٍ أنَّه _◙_ مرَّ بنفرٍ يرمون فقال: ((رميًا بني إسماعيل، فإنَّ أباكم كان راميًا)) وروى ابن حِبَّان في «صحيحه» مِنْ حديث أبي هريرة: خرج النَّبيُّ _صلعم_ وأسلمُ يرمون، فقال: ((ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابنِ الأدْرَعِ، فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ قِسِيَّهُمْ، قَالوا: مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ، قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ)).
          قلتُ: وابن الأدرع اسمه مِحْجَنٌ كما أفاده ابن عبد البرِّ، وفي حديث سلمة هذا تقويةٌ لما رواه ابن سعدٍ مِنْ حديث ابن لَهيعة، عن عبد الرَّحمن بن زياد بن أَنْعُمَ، أخبرني بكر بن سَوَادَة، سمع عليَّ بن رَباحٍ يقول: قال رسول الله _صلعم_: ((كلُّ العربِ مِنْ ولدِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ))، وذكره ابْن هشامٍ أيضًا عَن بعض أهل اليمن يعني النَّسَّابين، وفي كتاب الزُّبَير: حدَّثني إبراهيم الحَزَاميُّ حدَّثني عبد العزيز بن عِمران، عن معاوية بن صالحٍ الحِمْيَريِّ عن ثورٍ عن مكحولٍ قال رسول الله _صلعم_: ((العرب كلُّها بنو إسماعيل إلَّا أربع قبائل: السُّلْف والأوزاعُ وحَضْرَمَوْتُ وثَقيفُ)) ورواه صاعدٌ في «فصوصه» مِنْ حديث عبد العزيز بن عِمران عن معاويةَ قال: أخبرني مكحولٌ عن مالك بن يُخَامِرَ وله صحبةٌ، فذكره.
          قال ابن عبد البرِّ: قالوا: قَحطان بن تَيْمَنَ بن هَمَيْسَعَ بن نَبْت وهو نَابت بن إسماعيل، وقيل: قَحْطان بن يمن بن هَمَيْسَعَ بن نَابِتٍ، وقيل: قَحْطان بن هَمَيْسَعَ بن أَصْيافَ بن هَمَيْسَعَ بن أَصْياف بن هَمَيْسَعَ بن أصياف بن هُودِ بن شَرْوَان بن الميثان بن العَامِلِ بن مِهْرانَ بن يحيى بن يَقْظانَ بن سادب وهو نابِتُ بن تَيْمَنِ بن النَّبْت بن إسماعيل _◙_ ومَنْ جعل قَحطان مِنْ ولد إسماعيل يشهد له قولُ المنذر بن حَرامٍ جدِّ حسَّان بن ثابتٍ حيث يقول:
وَرِثْنا مِنَ البُهْلُول عَمْرِو بنِ عَامرٍ                     وَحَارِثَةَ الغِطْرِيفِ مَجْدًا مُؤَثَّلا
مَآثِرَ مِنْ نَبْتِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ                     ونَبْتِ بنِ إسماعيلَ مَا إنْ تحوَّلا /
          وحديث أبي أُسَيْدٍ _بضمِّ الهمزة_ ذكره في المغازي [خ¦3984] عن عبد الله بن محمَّدٍ الجُعْفِيِّ، عن أبي أحمد الزُّبَيريِّ، عَن ابن الغَسِيل، عن حمزة والزُّبَير بن المُنْذِرِ بن أبي أُسيدٍ عن أبيهما، وخالف في ذلك أبو نُعَيْمٍ الحافظ فأدخل بين حمزة وابن الغَسِيل عبَّاسَ بن سهل بن سعدٍ مِنْ طريق أبي أحمد الزُّبَيريِّ، عن عبد الرَّحمن عن عبَّاسٍ عن حمزة عن أبيه، ورواه الطَّبَرانيُّ مِنْ طريق يحيى الحِمَّانيِّ وأبي نُعَيْمٍ الدُّكَيْنِيِّ عن ابن الغَسِيل، عن عبَّاسٍ وحمزة بن أبي أُسيدٍ، وقال أبو نُعيمٍ مرَّةً: عن المنذر بن أبي أُسَيدٍ، ولم يقل: الزُّبَير بن المُنْذِرِ بن أبي أُسَيدٍ، وكأنَّه أشبه لقوله: عن أبيهما.
          فائدةٌ: قيل: سُمِّي الغَسِيل لأنَّ الملائكة غسلته، وعبد الرَّحمن قيل: عاش مئةً وستِّين سنةً حكاه ابن التِّيْنِ.
          إذا تقرَّر ذلك فمعنى (يَنْتَضِلُونَ) _بالضَّاد المعجمة_: يرتمون، يُقال: ناضلت الرَّجل: رَمَيْتُه، والنَّضل: الرَّمي مع الأصحاب، وقال ابن فارسٍ: نضل فلانٌ فلانًا في المراماة إذا غلبه، وناضلت فلانًا: غلبته، وانتضل القوم وتناضلوا إذا رموا للسَّبق، ثُمَّ فيه فوائدُ:
          الأولى: قوله (ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ) فيه دِلالةٌ عَلى رجحان قول مَنْ قال مِنْ أهل النَّسب: إنَّ اليمن مِنْ ولد إسماعيل وأسلم مِنْ قحطان، وقد سلف واضحًا.
          الثَّانية: قوله: (فَإِنَّ أَبَاكُمْ) فيه أنَّ الجدَّ وإنْ علا يُسمَّى أبًا.
          الثَّالثة: أنَّ السُّلطان يأمر رجاله بتعلُّم الفروسيَّة ويحضُّ عليها.
          الَّرابعة: أنَّ الرَّجل يطلب الخلال المحمودة ويتبعها ويعمل بها قال:
لَسْنا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائلُنا                     يومًا على الأحْساب نَتَّكُلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنا                     تَبْنِي ونَفْعَل مِثْلَ ما فَعَلُوا
          الخامسة: قوله: (حِينَ صَفَفنَا لِقُرَيْشٍ) وفي بعض النُّسخ: <أَسْفَفْنَا> حكاه الخَطَابيُّ ثُمَّ قال: فإن كان محفوظًا فمعناه القرب منهم والتَّدلِّي عليهم كأنَّ مكانهم الَّذي كانوا فيه أهبط مِنْ مصافِّ هؤلاء، ومنه قولهم: أَسَفَّ الطَّائرُ في طيرانه إذا انحطَّ إلى أن يقارب إلى وجه الأرض، ثُمَّ يطير صاعدًا.
          السَّادسة: (أَكْثَبُوكُمْ) _بثاءٍ مُثلَّثةٍ ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ_ أي: دنَوا منكم وقاربوكم، وفي «الغريبين» حذف الألف، فلعلَّهما لغتان، وقال ابن فارسٍ: أَكْثَبَ الصَّيدُ إذا أمكن مِنْ نفسه، وهو مِنَ الكثب وهو القرب، وقال الدَّاوُديُّ معنى (أَكْثَبُوكُمْ) كثروا وحملوا عليكم، وذلك أنَّ النَّبل إذا رُمي في الجمع لم يُخطئ، ففيه ردعٌ لهم، ونقل ابن بَطَّالٍ عن «الأفعال» أنَّ العرب تقول: أَكْثَبَكَ الصَّيدُ: قربَ منك، والكَثَبُ: القُرْبُ، فمعنى أَكْثَبُوكم: قَرُبوا منكم.
          السَّابعة: أنَّ السُّلطان يُعْلِم المجوِّدين بأنَّه معهم، أي: مِنْ حزبهم، ومحبٌّ لهم كما فعل _◙_ للمجوِّدين في الرِّماية، فقال: (وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلانٍ) أي أنا محبٌّ لهم ولفعلهم، كما قال: ((المرءُ مَعَ مَنْ أَحبَّ)).
          الثَّامنة: أنَّه يجوز للرَّجل أن يبينَ عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصَّته في محبَّته ويُعْلِمَهم كلَّهم أنَّهم في حزبه ومودَّته كما قال _◙_: (أَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) بعد أن كان أفرد إحدى الطَّائفتين.
          التَّاسعة: أنَّ مَنْ صار السُّلطان عليه في جملة الحزب المناضلين له ألَّا يتعرَّض لمناوأته كما فعل القوم حين أمسكوا لكونه _◙_ مع مناضليهم خوف أن يرموا فيَسْبِقوا فيكون _◙_ مع مَنْ سُبق، فيكون ذلك جنفًا على رسول الله _صلعم_ فأمسكوا تأدُّبًا فلمَّا أعلمهم أنَّه معهم أيضًا رمَوا لسقوط هذا المعنى.
          العاشرة: أنَّ السُّلطان يجب أن يعلم بنفسه أمورَ القتال اقتداءً به ◙.
          فائدةٌ: في فضل الرَّمي والتَّحريض عليه غير ما سبق، ولنذكر منها خمسةَ أحاديثَ:
          أحدها: حديث أبي نَجِيحٍ عمرو بن عَبْسة مرفوعًا في فضل مَنْ رمى بسهمٍ في سبيل الله، أخرجه التِّرمِذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ.
          ثانيها: حديث كعب بن مُرَّة: ((مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَلَغَ الْعَدُوَّ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ كَانَ لَهُ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ)) أخرجه النَّسَائيُّ، ولابن حِبَّان: ((مَنْ رَمَى فبَلَغَ الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ، رَفَعَ اللهُ بِهِ دَرَجَتَهُ)) فقال عَبْدُ الرَّحمن بْنُ النَّحَّامِ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الدَّرجةُ؟ قال: ((أَمَا إِنَّهَا لَيْسَتْ بِعَتَبَةِ أُمِّكَ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مئة عَامٍ)).
          ثالثها: حديث عقبة، وقد سلف أوَّل الباب، ورُوِّيناه في «الخِلَعِيَّات» مِنْ حديث الرَّبِيع بن صُبَيْحٍ عن الحسن _يعني ابن أبي الحسناء فيما صوَّبه الخطيب_ عن أنسٍ: ((يُدخِلُ اللهُ بالسَّهْمِ الجنَّةَ ثلاثةً: الرَّاميَ بهِ، وصانعَه، والمحتسبَ به)) وفي لفظٍ: ((مَنِ اتَّخذ قوسًا عربيَّةً وجبيرها _يعني كنانته_ نفى عنه الفقر)) وفي لفظٍ: ((أربعين سنةً)).
          رابعها: حديث عليٍّ ☺: رأى رسول الله _صلعم_ رجلًا يرمي بقوسٍ فارسيَّةٍ فقال: ((ارمِ بها)) فنظر إلى قوسٍ عربيَّةٍ فقال: ((عليكم بهذهِ وأمثالها، فإنَّ بهذه يُمَكِّنُ اللهُ لكمْ في البلادِ ويزيدُكُم في النَّصْرِ)) أخرجه أبو داود مِنْ حديث أبي راشدٍ الحُبْرَانيِّ عنه، وإنَّما نهى عن القوس الفارسيَّة لأنَّها إذا انقطع وترها لم ينتفع بها صاحبها، والعربيَّة إذا انقطع وترها كان له عصًا يَنتفع بها، حكاه البَيْهقيُّ.
          خامسها: حديث أبي عبيدة عن أبيه عبد الله قال: قال رسول الله _صلعم_ يوم الطَّائف: ((قاتلوا أهل الصِّنع فمَنْ بلغ بسهمٍ فإنَّه درجةٌ في الجنَّة)) أخرجه الطَّبَرانيُّ، والله أعلم.