التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في درع النبي والقميص في الحرب

          ░89▒ (بابُ: مَا قِيلَ فِي دِرْعِ النَّبِيِّ _صلعم_ وَالقَمِيصِ فِي الحَرْبِ
          وَقَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: أَمَّا خَالِدٌ فَقَد احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
          2915- ثُمَّ ساق حديثَ ابْن عبَّاسٍ قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_ وَهُوَ فِي قُبَّتهِ: اللهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ...) إلى أن قال: (وَهُوَ فِي الدِّرْعِ) (وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ: يَوْمَ بَدْرٍ).
          2916- وحديثَ عَائِشَةَ: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَالَ يَعْلَى: حَدَّثَنَا الأعْمَشُ: دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ مُعَلًّى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، وَقَالَ: رَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ).
          2917- وحديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: (مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ...) إلى آخره.
          الشَّرح: التَّعليق الأوَّل سلف مسندًا [خ¦1468].
          وقوله: (وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ: يَوْمَ بَدْرٍ) أسنده في التَّفسير [خ¦4875] فقال: حَدَّثَنِي محمَّدٌ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ... الحديثَ، ومِنَ المعلوم أنَّ ابن عبَّاسٍ لم يكن شهدها، وقد رواه مسلمٌ مِنْ حديث سِمَاك بن الوليد، عن ابن عبَّاسٍ عن عمرَ بزيادة: فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية [الأنفال:8].
          ومحمَّدٌ هذا الَّذي أخرج عنه في التَّفسير لعلَّه الذُّهْليُّ، قال الجيَّانيُّ: كذا في روايتنا عن أبي محمَّدٍ الأَصيليِّ، وكذا عند أبي ذرٍّ غير منسوبٍ، وذكره أبو نصرٍ ولم ينسبه، قال: وسقط ذكره جملةً مِنْ نسخة ابن السَّكَن، قال أبو عليٍّ: ولعلَّه الذُّهْليُّ، وقال ابن طاهرٍ في ترجمة عفَّان: روى عنه البُخاريُّ، وروى عن عبد الله بن سعيدٍ ومحمَّد بن عبد الرَّحيم، وإسحاق غير منسوبٍ، ومحمَّدٌ غير منسوب عنه، وروى مسلمٌ عن الصَّغانيِّ محمَّد بن إسحاقَ ومحمَّد بن حاتمٍ ومحمَّد بن مثنَّى عنه، وقول البُخاريِّ في تفسير سورة القمر [خ¦4877]: حدَّثنا إسحاق حدَّثنا خالدٌ عن خالدٍ عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ قال: ((وَهو في قبَّةٍ له يوم بدرٍ)) يريد بإسحاقَ هذا ابنَ شاهين، كما صرَّح به غير واحدٍ، وإنْ كان إسحاق الأزرق روى أيضًا عن خالدٍ الطَّحَّان، لكنَّ البُخاريَّ ما روى عنه في «صحيحه». وحديث عائشةَ سلف قريبًا في الرَّهن [خ¦2509]، وفي البيع أيضًا [خ¦2068]، وحديث أبي هريرة سلف في الزَّكاة [خ¦1443].
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: في قوله: (احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ) دِلالةٌ على تحبيس السِّلاح، واختلف قول مالكٍ في تحبيس ما عدا العقارَ على روايتين، ومِنْ أصحابه مَنْ جعل الخيل كالعقار.
          ثانيها: قول أبي بكرٍ: (حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ) أي يكفيك، قال القزَّاز: ومنه يُقال: حَسْب ساكن الباء. وإنَّما المعنى يكفيك كما قلت، ومعنى (أَلْحَحْتَ) داومت الدُّعاء، يُقال: ألحَّ السَّحاب بالمطر: دام.
          ثالثها: قد يشكل هذا الحديث على كثيرٍ مِنَ النَّاس، وذلك إذا رأَوا رسول الله _صلعم_ يناشد ربَّه مِنْ إنجاز الوعد، ويلحُّ في الدُّعاء والصِّدِّيق يسكِّنه ويقول: (حَسْبُكَ... فَقَدْ أَلْحَحْتَ)، / فهذا يوهم أنَّ حاله في الثِّقة بربِّه والطُّمأنينة إلى ربِّه أرفعُ مِنْ حال الشَّارع، وهذا غير جائزٍ أن يكون، كما نبَّه عليه ابن التِّيْنِ، والمعنى في مناشدته وإلحاحه في الدُّعاء الشَّفقة على قلوب أصحابه، وتقوية قلوبهم إذ كان ذلك أوَّل مشهدٍ شهدوه في لقاء العدوِّ، وكان في صحابته قلَّةٌ وعدوُّهم أضعافٌ مِنْ عدَّتهم، فابتهل في الدُّعاء وألحَّ لتسكين نفوسهم إذ كانوا يعلمون أنَّ وسيلته مقبولةٌ، فقال له أبو بكرٍ: (كُفَّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ) إذ علم أنَّه استُجيب له بما وجده أبو بكرٍ في نفسه مِنَ المنَّة والقوَّة حتَّى قال له هذا القول، ويدلُّ على صحَّة ذلك تلاوته: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية [القمر:45].
          رابعها: قوله في حديثِ البخيل والمتصدِّق: (إِلَى تَرَاقِيهِمَا) لأنَّه عند الصَّدر، وهو مسلك القلب، وهو يأمر المرءَ وينهاه.
          خامسها: فيه ما ترجم له، وهو اتِّخاذ الدِّرع والقتال به، وفيه دلالةٌ على أنَّ نفوس البشر لا يرتفع الخوف عنها والإشفاق جملةً واحدةً لأنَّه _◙_ قد كان وعده الله بالنَّصر، وهو الوعد الَّذي نشدَه ولذلك قال _تعالى_ عن موسى _◙_ حين ألقى السَّحرة حبالَهم وعصيَّهم، فأخبر عنه _تعالى_ بعد أن أعلمه أنَّه ناصرُه، وأنَّه معهما يسمع ويرى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] وإنَّما هي طوارقُ مِنَ الشَّيطان يُخوِّف بها النُّفوس و{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
          وقوله: (اللهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ) أي اللَّهمَّ إنِّي أسألك إنجازَ وعدك وإتمامَه بإظهار دينك وإعلاء كلمة الإسلام الَّذي قضيت بظهوره على جميع الأديان وشئت أن يعبدك أهله ولم تشأ ألَّا تُعبد، فتمِّم ما شئت كونَه، فإنَّ الأمور كلَّها بيدك.
          وقوله: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] فيه تأنيسُ مَنِ استبطأ كريمَ ما وعده الله به مِنَ النَّصر بالبشرى لهم بهزم حزب الشَّيطان، وتذكيرهم بما يثبِّتهم به مِنْ كتابه _تعالى_، وفيه فضل الصِّدِّيق ويقينه بصدق ما وعد الله به نبيَّه، ولذلك سُمِّي صدِّيقًا.