التوضيح لشرح الجامع البخاري

كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة

          ♫
          ░86م▒ كِتَابُ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ
          ░15▒ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة:33].
          6802- ثمَّ ساقَ حديثَ أنسٍ في قصَّةِ العُرَنيِّينَ السَّالفةِ في الطَّهارةِ، وكأنَّ البُخَاريَّ ذهبَ في هذا الحديثِ _والله أعلم_ إلى أنَّ آيةَ المحاربةِ نزلتْ في أهلِ الكُفرِ والرِّدَّةِ، ولم يبيِّن ذلك في الحديثِ.
          وقد بيَّن عبدُ الرَّزَّاق في روايتِه فقال: حدَّثنا مَعْمَرٌ عن قَتَادَةَ عن أنسٍ فذكرَهُ، وفي آخرِه: قال قَتَادَةُ: فبلغَنَا أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ} الآيةُ كلُّها [المائدة:33]، وذكر مِثْلَهُ عن أبي هُرَيْرَةَ.
          وممَّن قال: إنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في أهلِ الشِّركِ: الحَسَنُ والضَّحَّاكُ وعَطَاءٌ والزُّهْرِيُّ.
          وذهب جمهورُ الفقهاءِ إلى أنَّها نزلتْ فيمن خرج مِن المسلمين يسعى في الأرضِ بالفسادِ ويَقطع الطَّريقَ، وهو قولُ أبي حَنيفَةَ ومالكٍ والكوفيِّينَ والشَّافِعيِّ وأبي ثورٍ، إلَّا أنَّ بعضَ هؤلاء يقولون: إنَّ حدَّ المحارِبِ على قَدْرِ ذَنْبِه، على ما في تفسيرِه.
          قال ابنُ القصَّار: وقيل: نزلتْ في أهلِ الذِّمَّة الَّذين نقضُوا العَهْدَ، وقيل في المرتدَّينَ، وكلُّه خطأٌ وليس قولُ مَن قال إنَّ الآيةَ وإنْ كانت في المسلمين مُنَافٍ في المعنى لقولِ مَن قال بأنَّها نزلتْ في أهلِ الرِّدَّةِ والمشركين؛ لأنَّ الآيةَ وإن كانتْ نزلتْ في المرتدِّين بأعيانِهم فلفْظُها عامٌّ يدخلُ في معناه كلُّ مَنْ فَعَل مِثْلَ فِعْلِهم مِن المحاربةِ والفسادِ في الأرض، أَلَا ترى أنَّ الله جَعَلَ قَصْرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ بشرْطِ الخوفِ ثمَّ ثَبَتَ القَصْرُ للمسافرين وإنْ لم يكن خوفٌ لِمَا يجمعُهما في المعنى.
          وظاهرُ القرآنِ وما مضى عليه عَمَلُ المسلمينَ يدلُّ على أنَّ هذه الحُدُودَ نزلتْ في المسلمينَ كما قاله القاضي إسماعيلُ بن إسحاقَ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [مُحَمَّد:4] وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] فلم يَذكر فيهم إلَّا القَتْلَ والقتالَ لأنَّهم إنَّما يُقَاتَلون على الدِّيانة لا على الأعمالِ الَّتي يَعملونها مِن سَرِقَةٍ أو قَطْعِ طريقٍ أو غيرِه، وإذا ذُكِرَتِ الحُدُودُ الَّتي تجِبُ على النَّاس مِن الحِرَابة والفسادِ في الأرضِ أو السَّرِقَةِ وغيرِها لم تسقُطْ عن المسلمين؛ لأنَّها إنَّما وجبتْ مِن طريقِ أفعالِ الأبدانِ لا مِن طريق اعتقادِ الدِّيانات، ولو كان حدُّ المحارِبِ في الكافِر خاصَّةً لكانتِ الحِرَابةُ قدْ نَفَعَتْهُ في أمورِ دنياهُ لأنَّا نقتُلُهُ بالكفرِ، فإنْ كان إذا أحدثَ الحِرَابةَ مع الكفرِ جازَ لنا أنْ نقطعَ يَدَهُ ورِجْلَه مِن خِلافٍ أو ننْفِيَهُ مِن الأرضِ ولا نقتلَهُ، فقد خفَّف عنه العقوبة.
          واحتجَّ أبو ثورٍ على أنَّ مَن زعمَ أنَّها نزلتْ في أهلِ الشِّركِ بقولِه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية [البقرة:160] قال: ولا أعلمُ خلافًا بين العلماءِ في المشركينَ لو ظُهِرَ عليهم وقد قَتلوا وأَخذوا الأموال، فلمَّا صاروا في أيدي المسلمين وهُمْ على حالِهم تلك أسلمُوا قبل أن يُحكَم عليهم بشيءٍ أنَّهم لا يَحِلُّ قتْلُهم، فلو كان الأمرُ على ما قال مَن خالفَ قولَنا كان قَتْلُهم والحكمُ عليه مِن الآيةِ لازمٌ وإنْ أسلموا، فلمَّا نَفَى أهلُ العلم ذلك دلَّ على أنَّ الحُكمَ ليس فيهم.
          قال إسماعيل: وإنَّما سقط عنهم القتلُ وكلُّ ما فَعَلوه بقولِه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] والَّذي عليه قولُ شيوخ أهلِ العلم أنَّ المعنِيَّ بهذا المسلمون، وأنَّهم إذا حاربُوا فتابوا مِن قبلِ أنْ يُقدَرَ عليهم فإنَّ الحُدُودَ تَسقُطُ عنهم لأنَّها لله، وأمَّا حقوقُ العبادِ فإنَّها لا تَسقُطُ عنهم ويُقتصُّ منهم مِن النَّفسِ والجوارحِ، وأُخِذ ما كان معهم مِن المالِ أو قيمةُ ما استهلَكُوا، فهذا قولُ مالكٍ والكوفيِّينَ والشَّافِعيِّ وأبي ثورٍ فيما حكاهُ ابنُ المنذر.
          وأمَّا ترتيبُ أقوالِ العلماء الَّذين جعلوا الآيةَ نزلتْ في المسلمينَ في حدِّ المحارِبِ المسلمِ: فقال مالكٌ: إذا أَشْهَرَ السِّلاحَ وأخافَ السَّبيل ولم يَقتُلْ ولا أَخَذَ مالًا كان الإمامُ مخيَّرًا فيه، فإنْ رأى أن يقتلَهُ أو يَصلُبَهُ أو يقطعَ يدَهُ ورِجْلَه مِن خِلافٍ أو يَنْفِيَهُ مِن الأرضِ فَعَلَ ذلك.
          وقال الكوفيُّونَ والشَّافِعيُّ: إذا لم يَقتُلْ ولا أَخَذَ مالًا لم يكُنْ عليه إلَّا التَّعزيرُ، وإنَّما يقتلُهُ الإمامُ إنْ قَتَلَ ويقطعُهُ إنْ سَرَقَ ويَصْلُبُهُ إذا قتَلَ وأخذَ المالَ وينفيه إذا لم يفعَلْ شيئًا مِن ذلكَ، ولا يكونُ الإمامُ مخيَّرًا فيه.
          قال إسماعيل: وأَجْرَوْا حُكم المحارِبِ كحكمِ القاتل غيرِ المحارِب، ولم توجِبِ المحارَبَةُ عندَهم شيئًا وقد رَكِب ما رَكِب مِن الفسادِ في الأرض، وقد قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] فجعل الفسادَ بمنزلةِ القتلِ، والمعنى _والله أعلم_ مَن قَتَلَ نفسًا بغيرِ نفسٍ أو بغيرِ فسادٍ في الأرضِ، فلم يحتجْ إلى أن تُعادَ غير وتَعْطِفَ الكلامَ على ما قبْلَهُ، فجعل الفساد عَدْلًا للقتلِ، وإذا كان الشَّيءُ بمنزلةِ الشيءِ فهو مثلُهُ، فكأنَّ الفسادَ في الأرض بمنزلةِ القتل، هذا قول إسماعيلَ وعبدِ العزيز بن أبي سَلَمَةَ، قال إسماعيل: والذي يُعرَفُ مِن النَّاس مِن الكلام في كلِّ ما أُمِرَ به فقيل: افعلوا كذا وكذا، فإنَّ صاحبه مخيَّرٌ. وقال عَطَاءٌ ومُجَاهِدٌ والضَّحَّاك: كلُّ شيءٍ في القرآنِ أو أو، فهو خِيَارٌ.
          واحتجَّ مَن أسقطَ التَّخييرَ بقولِه ╕: ((لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ)) الحديث. فجاوبَهم أهلُ المقالةِ الأُولى بأنَّ ظاهرَه يدلُّ أنَّ المحارِبَ غيرُ داخلٍ فيه؛ لأنَّ قاتِلَ النَّفسِ في غيرِ المحارَبَةِ إنَّما أمره في القتلِ أو التَّركِ إلى وليِّ المقتولِ، وأَمْرُ المحارِبِ إلى السُّلطانِ لأنَّ فسادَه في الأرضِ لا يُلتفت فيه إلى عفوِ المقتول، فعلمْنَا بهذا أنَّ المحارِبَ لا / يَدخلُ في هذا الحديث، وإنَّما يَدخُلُ فيه القاتلُ الَّذي أَمْرُهُ إلى وليِّ المقتولِ إذا قتل فيه، أو قَتَلَ نفسًا بغير نفسٍ فكأنَّه على مجرى القِصاص، ولو كان على العمومِ لوجبَ أن يُقتَلَ كلُّ قاتلٍ قَتَلَ مسلمًا عمدًا.
          وقد رأينا مسلمًا قَتَل مُسلمًا عمدًا لم يجبْ عليه القتلُ في قولِ جماعةِ المسلمين، وذلك أنَّهم أجمعوا في قتلى الجملِ وصِفِّينَ أنَّهم لا تقاصَّ بينهم إذْ كان القاتلُ المسلمُ إنَّما قَتلَ بتأويلٍ لم يَقتلْهُ لثائرةٍ بينَه وبينَه، ولا قصَد له في نفْسِه، وإنَّما قَصَدَ في قَتْلِهِ للدِّيانةِ عندَه فسقَطَ القتلُ عنه لذلك، فكذلك أَمْرُ المحارِب إنَّما كان قصدُهُ قتلَ المسلمِ لقطْعِ الطَّريقِ وأخذِ الأموالِ والفسادِ في الأرضِ، فكانَ الأمرُ فيه إلى السُّلطان لا إلى وليِّ المقتول، فكما خرج قتلَى صفِّين والجملِ مِن معنى هذا الحديث كذلك خرج المحارَبَة مِن معناه.
          ويشهد لِمَا قلنا ما رواه الأعمشُ عن عبدِ الله بن مُرَّةَ قال: قال مَسْرُوقٌ: قال عبدُ الله: قال رسولُ الله صلعم: ((لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ: قتْلُ النَّفْسِ بالنَّفس، والثَّيِّبُ الزَّاني، والمفارِقُ لدينِه المفارِقُ للجماعة)) فمفارَقَةُ الجماعةِ دالَّةٌ على الفسادِ في الأرضِ نحو الخوارجِ والمحارِبين، فإذا كان الخوارجُ يحِلُّ قَتْلُهم وليسوا بمرتدِّين لفسادِهم في الأرض، كذلك يحلُّ قتْلُ المحارِبينَ وإنْ لم يكونوا قَتَلُوا ولا ارتدُّوا لِفسادِهم في الأرض.
          واختُلف في صِفة نفْيِ المحارِبِ، فعند مالكٍ أنَّه ينفيه إلى غيرِ بلدِهِ، وعنه: يَحبسُهُ فيه حتَّى تَظهرَ توبتُه، وقال أبو حَنيفَةَ: يَحبسُهم في بَلَدِهم، وقال الشَّافِعيُّ: ينفِيهم: إذا هَربُوا بَعَثَ الإمامُ خَلْفَهُم وطلَبَهُم ليأخُذَهُم ويُقيمَ عليهم الحدَّ. وقال أبو ثورٍ: قال بعضُهم: يُنفَى مِن البَلَدِ الَّتي هو فيها إلى بلدةٍ غيرِها كما يُفعَلُ بالزَّاني، وهو مرويٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ، وقال الشَّعْبِيُّ: يُنفى مِن عملِه، حكاهُ ابنُ المنذِرِ. وقال أبو الزِّنَاد: كانوا يُنفَوْنَ إلى دَهْلَك وتلك النَّاحيةِ.
          وقال الحَسَن: يُنفى حتَّى لا يُقدَرَ عليه، قال ابنُ القصَّار: والنَّفيُ بعينِه أشبهُ بظاهرِ القرآن؛ ولقولِه تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] وهذا ينبغي أن ينفيَهم الإمامُ كما يَقتلُهم أو يَصلُبُهم، وما قاله أبو حَنيفَةَ مِن الحبسِ في بلدِهم فالنَّفْيُ ضدُّ الحبْسِ، وليس يُعقَلُ مِن النَّفي حبسُ الإنسانِ في بلدِه، وإنَّما يُعقل منه إخراجُه مِن وطنِه وهو أبلغُ في رَدْعِه، ثمَّ يُحبَسُ في المكان الَّذي يُخرَجُ إليه حتَّى تَظهرَ توبتُه، هذا حقيقةُ النَّفْيِ وهو أشدُّ في الرَّدْعِ والزَّجر، وقد قرَن اللهُ تعالى مفارقةَ الوطنِ بالقتْلِ فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} الآية [النساء:66].
          فَصْلٌ: نقلَ ابنُ التِّينِ عن بعضِ المتأخِّرينَ أنَّه إذا أُخِذَ المحارِبُ بحضْرَةِ خروجِه ولم يقع منه حربٌ عُوقبَ، ولا يجري عليه شيءٌ مِن أحكامِ المحاربةِ لأنَّه لم يُحَارِب، وفي «المدوَّنة»: ليس كلُّ المحارِبين سواء، منهم مَن يخرُجُ بعصا ويُوجَدُ على تلك لحالِ ولم يُخِفِ السَّبيلَ ولم يأخذِ المالَ ولم يَقتُلْ، قال مالكٌ: فأَمْرُه أن يُجلَدَ ويُنفَى ويُسجنَ في الموضعِ الَّذي نُفِيَ إليه. وعندَ مُحَمَّدٍ في روايةِ أشهبَ لمالكٍ: أنَّ للإمامِ أن يَقتُلَه إذا شاءَ أو يَقطعَهُ مِن خِلافٍ، وحكى ابنُ شَعْبانَ أنَّه يُنفَى ولا يُضرَبُ وأنَّ ضَرْبَهُ ظلمٌ لأنَّ اللهَ لم يذكُرِ الضَّرْبَ مع النَّفْيِ.
          فَصْلٌ: ومشهورُ مذهبِ مالكٍ أنَّه لا بدَّ مِن قَتْلِ المحارِبِ، وفيه خلافٌ مُنتشرٌ.
          فَصْلٌ: ومعنى (اجْتَوَوْا الْمَدِينَةِ) كَرِهوا المقام بها. ومعنى (سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ) فَقَأَها. ومعنى (لَمْ يَحْسِمْهُمْ) لم يَكْوِهم بالنَّارِ لينقطعَ الدَّمُ، وقال الدَّاودِيُّ: لم يُدْخِل ما قُطِعَ منهم في زيتٍ، وإنَّما لم يَحْسِمْهُمْ لأنَّ قتْلَهُم كان واجبًا بالرِّدَّةِ فمُحَالٌ أن يَحْسِمَ مَن يطلُبُ نفْسَهُ، وأمَّا مَن وجبَ قَطْعُ يدِه في حدٍّ مِن حدودِ الله فالعلماء مُجْمِعُون على أنَّها لا بدَّ مِن حَسْمِها؛ لأنَّه أقربُ إليه وأبعدُ مِن التَّلَفِ كما سأذكرُه في البابِ بعدُ.