التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب درجات المجاهدين في سبيل الله

          ░4▒ (باب: دَرَجَاتِ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ تعالى، يُقَالُ: هَذِهِ سَبِيلِي وَهَذَا سَبِيلِي. {غُزًّى} [آل عمران:156] وَاحِدُهَا غَازٍ، {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران:163] لَهُمْ دَرَجَاتٌ).
          2790- ثُمَّ ساق مِنْ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ _☺_ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فِيهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ _أُرَاهُ_ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ.
          قَالَ محمَّد بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ: وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحمن).
          2791- وحديثِ سَمُرَةَ: (قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالَا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ).
          الشَّرح: / السَّبِيْلُ _كما قال_ يُذكَّر ويُؤنَّث، قال ابن سِيْدَهِ: السَّبيل: الطَّريق وما وضح منه، وسبيل الله: طريق الله الَّذي دعا إليه، واستعمل السَّبيل في الجهاد لأنَّه السَّبيل الَّذي يُقاس به عقد الدين والجمع سُبلٌ، وما ذكره في تفسير {غُزًّى} و{هُمْ دَرَجَاتٌ} ثابتٌ في بعض النُّسخ، وتعليق محمَّد بن فُلَيحٍ أسنده البُخاريُّ في التَّوحيد [خ¦7423] عن إبراهيم بن المنذِرِ عن محمَّد بن فُلَيحٍ به.
          قال الجَيَّانيُّ: وفي نسخة أبي الحسن القابسيِّ: <حَدَّثَنَا محمَّد بنُ فُلَيْحٍ> وهو وهمٌ لأنَّ البُخاريَّ لم يدرك محمَّدًا هذا، وإنَّما يروي عن ابن المنذِرِ ومحمَّد بن بشَّارٍ عنه، والصَّواب: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيحٍ) كما رواه الجماعة، وحديثه هذا مِنْ أفراد البُخاريِّ، ويأتي أيضًا في باب: مَنْ أصابه سهمٌ غربٌ [خ¦2809]، وحديث سَمُرة تقدَّم [خ¦1386].
          ولا شكَّ أنَّ الجنَّة تُستحقُّ بالإيمان بالله ورسوله تفضُّلًا وإحسانًا، وفي الحديث: ((ثَمَنُ الجنَّةِ لا إِلَهَ إِلَّا الله)). والأعمال الصَّالحة تُنال بها الدَّرجاتُ والمنازل في الجنَّة.
          و(الفِرْدَوسَ) قال ابن عُزَيْزٍ: هو البستان بلغة الرُّوم، وقال الزَّجَّاج: بالسِّرْيانيَّة، وقال غيرهما: بالنَّبَطيَّة، أي: فَنُقل إلى لسان العرب، وقيل: هو البستان الَّذي يَجمع كلَّ ما في البساتين مِنْ شجرٍ وزهرٍ ونباتٍ مُونِقٍ، وهو قول الزَّجَّاج وعبارته فيه: الفردوس: الأودية الَّتي تنبت ضروبًا مِنَ النَّبت.
          وقوله: (إِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ) أي أفضلُها، ومنه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: خيارًا، وفي التِّرمِذيِّ: ((هُوَ رَبْوةُ الجنَّةِ وأَوسَطُهَا وأَفْضَلُهَا)) قال الدَّاوُديُّ: قال بعد الفردوس باب مِنْ أبواب الجنَّة، وقال أبو أُمامة: هو سرَّة الجنَّة، ونقل الجَواليقيُّ عن أهل اللُّغة أنَّه مذكَّرٌ وإنَّما أُنِّث في قوله _تعالى_: {الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11]، وقال ابن بَطَّالٍ: (وَسَطُ الجَنَّةِ) يحتمل أن يريد مَوْسِطَتها والجنَّة قد حُفَّت بها مِنْ كلِّ جهةٍ.
          وقوله: (وَأَعْلَى الجَنَّةِ) يريد أرفعَها لأنَّ الله _تعالى_ مدح الجنَّات إذا كانت في علوٍّ فقال: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة:265].
          وقوله: (وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ) قال ابن التِّيْنِ: أي فوق الجنَّة كلِّها.
          وقوله: (وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ) يدلُّ أنَّها عاليةٌ في الارتفاع.
          وقوله: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ...) إلى آخرِه فيه تأنيسٌ لِمَنْ حُرم الجهاد في سبيل الله، فإنَّ له مِنَ الإيمان بالله _تعالى_ والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنَّة لأنَّها هي غاية الطَّالبين ومِنْ أجلها تُبذل النُّفوس في الجهاد خلافًا لما يقوله بعض جهلة الصُّوفيَّة.
          فلمَّا قيل لرسول الله _صلعم_: (أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟) أخبر _◙_ بدرجات المجاهدين في سبيله وفضيلتهم في الجنَّة ليرغِّب أمَّته في جهاد المشركين لإعلاء كلمة الإسلام، ولم يذكر فيه الزَّكاة والحجَّ، قال ابن بَطَّالٍ: لأنَّه كان قبل فرضهما وفيه نظرٌ، فإنَّ الزَّكاة فُرضت قبل عام خَيبرَ كما سلف، والحجُّ فُرِض سنة ستٍّ على ما تقدَّم، ورواه أبو هريرة وهو أسلمَ عام خيبرَ، وفي «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث أنسٍ مرفوعًا: ((مَنْ طلبَ الشَّهادةَ صَادِقًا أُعْطِيها ولَو لَمْ تُصِبْه)) وفي «المستدرك»: ((مَنْ سألَ القَتْلَ في سبيلِ اللهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَعْطاهُ اللهُ أَجْرَ شهيدٍ))، وفي النَّسَائيِّ مِنْ حديث معاذٍ مرفوعًا: ((مَنْ سألَ اللهَ القَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا، ثُمَّ ماتَ أَوْ قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ شهيدٍ)) وفي «المستدرك» _وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ_ مِنْ حديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مرفوعًا: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).
          وحديثُ أبي هريرة يشبه هذا المعنى لأنَّ قوله: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوسَ الأعْلَى)) خطابٌ لجميع أمَّته يدخل فيه المجاهدُ وغيره، فدلَّ ذلك على أنَّه قد يعطي الله لِمَنْ لم يجاهد قريبًا مِنْ درجة المجاهد لأنَّ الفردوس إذا كان أعلى الجنَّة وَلا درجة فوقه، وقد أمر الشَّارع جميع أمَّته بطلبه مِنَ الله دلَّ أن مَنْ بَوَّأه الله إيَّاه وإن لم يجاهد فقد تقاربت درجته مِنْ درجات المجاهدين في العلوِّ وإن اختلفت الدَّرجات في الكثرة والله يؤتي فضله مَنْ يشاء.