التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: يكتب للمسافر مثل ما كانَ يعمل في الإقامة

          ░134▒ باب: يُكتَبُ للمُسافرِ مثل ما كان يعملُ في الإقامة.
          2996- ذكر فيه حديثَ أبي إبراهيمَ إسماعيلَ السَّكْسَكِيِّ قَالَ: (سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ وَاصْطَحَبَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا).
          هذا الحديث مِنْ أفراده وله شواهدُ: منها حديث أبي موسى الأشعريِّ رفعه: ((إذا كان العبد يعمل عملًا صالحًا يشغله عن ذلك مرضٌ أو سفرٌ كتب الله له كصالح ما كان يعمل وهو صحيحٌ مقيمٌ)) أخرجه الحاكم وقال: صحيحٌ على شرط البُخَاريِّ.
          ومنها حديث سعيد بن أبي بُرْدة عن أبيه عن جدِّه رفعه: ((ألا إنَّ الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحَّته / ما دام في وَثاقه، والمسافر أفضل ما كان يعمل في حضَرهِ)) أخرجه الطَّبَرانيُّ في «أكبر معاجمه».
          ومنها حديث أنسٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((إذا ابتلى الله العبدَ المسلم ببلاءٍ في جسده قال الله تعالى: اُكتبُ له صالح عمله الَّذي كان يعمل. فإن شفاه غسله وطهَّره، وإن قبضه غفر له ورحمه)) رواه أحمدُ عن عفَّانَ عن حمَّاد بن سَلَمة عن أبي ربيعة سِنان عن أنسٍ به، ومنها حديث عبد الله بن عَمرو بن العاصي الآتي.
          فصلٌ: وهذا الحديث أيضًا أصله في كتاب الله تعالى قال جلَّ مِنْ قائلٍ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التِّينِ:4-6]، أي: مقطوعٍ، يريد أنَّ لهم أجرهم في حال الكِبَر والضَّعف عما كانوا يعملونه في الصِّحَّة غير مقطوعٍ لهم، فكذلك كلُّ مرضٍ مِنْ غير الزَّمَانة، وكلُّ آفةٍ مِنْ سفرٍ وغيره تمنع مِنَ العمل الصَّالح المعتاد، فإنَّ الله تعالى قد تفضَّل بإجراء أجره على مَنْ مُنع ذلك العمل بهذا الحديث. ثُمَّ هو ليس على عمومه، وإنَّما هو لِمَنْ كانت له نوافلُ وعادةٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فمنعه الله تعالى منها بالمرض أو السَّفر، وكانت نيَّته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعَها، فإنَّ الله سبحانه يتفضَّل عليه بأن يكتب له أجرَ ثوابها حين حبسه عنها، فأمَّا مَنْ لم يكن له نفلٌ ولا عملٌ صالحٌ فلا يدخل في معنى هذا الحديث، كما نبَّه عليه ابن بَطَّالٍ، فإنَّه لم يمنعْه مرضُه مِنْ شيءٍ، فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله؟
          وممَّا يدلُّ على أنَّ الحديث في النَّوافل ما روى مَعْمرٌ عن عاصم بن أبي النُّجُود عن خَيْثَمة عن عبد الله بن عمرٍو قال النَّبيُّ صلعم: ((إنَّ العبد إذا كان على طريقةٍ حسنةٍ مِنَ العبادة ثُمَّ مرض، قيل للملَك الموكَّل به: اُكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حتَّى أُطلقه أو أكفته إليَّ)) وأخرجه أحمدُ بلفظ: ((ما مِنْ أحدٍ مِنَ النَّاس يُصاب ببلاءٍ في جسده إلَّا أمر الله الملائكة الَّذين يحفظونه، يقول: اكتبوا لعبدي في كلِّ يومٍ وليلةٍ ما كان يعمل مِنْ خيرٍ ما كان في وِثاقي))، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» أيضًا وقال: ((ما مِنْ مسلمٍ)) بدل: ((ما مِنْ أحدٍ)) وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
          وقوله: (إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ العِبَادَةِ) لا يُقال إلَّا في النَّوافل، ولا يُقال ذلك لمؤدِّي الفرائض خاصَّةً، لأنَّ المريض والمسافر لا تسقط عنهما صلوات الفرائض، فسنَّة المريض الجلوسُ في الصَّلاة إن لم يطق القيام، والإيماء إن لم يطق الجلوس، وسنَّة المسافر القَصر ولم يبقَ أن يكتب لهما إلَّا أجرُ النَّوافل، كما قال صلعم: ((ما مِنِ امرئ يكون له صلاةٌ باللَّيل فيغلبه عنها نومٌ إلَّا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه)) وهذا لا إشكال فيه.
          واعترضه ابن المنيِّر وقال: هذا تحجيرُ واسعٍ، بل يدخل فيه الفرائض الَّتي شأنه أن يعمل بها وهو صحيحٌ إذا عجز عنه فعلًا، لأنَّه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا، حتَّى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يُكتب له بها أجر صلاة القائم.
          وقال ابن التِّينِ: هذا مجازاةٌ على النِّيَّة، فنيَّة المؤمن خيرٌ مِنْ عمله كما قيل. قلت: وقد ورد أيضًا، ويحتمل إن تكلَّف المريضُ أو المسافر أقلَّ العمل كان أفضل مِنْ عمله وهو صحيحٌ مقيمٌ.
          فصلٌ: هذه الأحاديث دالَّةٌ على أنَّ الأعذار المرخِّصة لترك الجماعة كما تنفي الحرج عن التَّارك يحصل له فضل الجماعة إذا صلاها منفردًا وكان قصده الجماعة لولا العذر، وبه صرَّح الرُّويانيُّ في «تلخيصه» قال: للأخبار الواردة في الباب.
          ويشهد له أيضًا حديث أبي هريرة: ((مَنْ توضَّأ فأحسن وضوءه ثُمَّ خرج إلى المسجد فوجد النَّاس قد صلَّوا أعطاه الله ╡ مثل أجر مَنْ صلَّاها وحضرها، لا ينقص ذلك مِنْ أجرهم شيئًا)) رواه أبو داود والنَّسَائيُّ والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، وهو رادٌّ على قول النَّوويِّ في «شرح المهذَّب»: إنَّ هذه الأعذار تسقط الكراهة أو الإثم ولا تكون محصِّلةً للفضيلة.
          فصلٌ: يزيد بن أبي كَبْشة سَكْسَكيٌّ دِمشقيٌّ مِنْ بيت لَهْيَا وعقبُه بها، واسم أبي كَبْشة: جبريل بن يَسار، أحد أمراء العراق، روى عن مروان بن الحكم وأبيه، ورجلٍ له صحبةٌ، فهو إذنْ تابعيٌّ، مات في خلافة سُليمان بن عبد الملك.