التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري

          ░146▒ باب: أهل الدَّار يبيَّتون فيُصاب الولدان والذَّراريُّ.
          {بَيَاتًا} [الأعراف:4-97، يونس:50] ليلًا، {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49] ليلًا: يبيِّت ليلًا.
          3012- 3013- ذكر فيه حديث الزُّهْريِّ: عَنْ عُبَيْدِ الله عَن ابن عبَّاسٍ عَن الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ ♥ قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلعم بِالْأَبْوَاءِ _أو بِوَدَّانَ_ فسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ)، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلعم).
          وَعَن الزُّهْريِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ اللهِ عَن ابن عبَّاسٍ حَدَّثَنَا الصَّعْبُ فِي الذَّرَارِيِّ وكان عمرٌو يُحَدِّثُنَا عَن ابن شِهابٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْريِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله عَن ابن عبَّاسٍ عَن الصَّعْبِ قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ) وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عَمْرٌو: (هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ).
          الشَّرح: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ والأربعة، وبيَّن الإسماعيليُّ هذا بقوله: قال سفيان: وكان عمرٌو حدَّثناه أوَّلًا عن الزُّهْريِّ قبل أن يلقاه فقال: ((هم مِنْ آبائهم))، فلمَّا حدَّثنا الزُّهْريُّ تفقَّدتُه فلم يقل: ((هم مِنْ آبائهم)) قال: ((هم منهم)). ورواه الطَّبَرانيُّ مِنْ حديث حمَّادِ بن زيدٍ عن عمرٍو عن ابن عبَّاسٍ بلفظ: ((هم مِنْ آبائهم)) _لم يذكر الزُّهْريَّ ولا عُبيدَ الله ولا الصَّعبَ_ رواه عن عليِّ بن عبد العزيز حدَّثنا حجَّاج بن مِنْهالٍ وعارمٌ عنه.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: صحَّف ابن المنيِّر (بياتًا) بالباء الموحدة بـ(نيامًا)، فقال: العجب لزيادته في التَّرجمة نيامًا وما هو في الحديث إلَّا ضمنًا؛ لأنَّ الغالب أنَّهم إذا وقع بهم ليلًا لم يخلُ مِنْ نائمٍ، وما الحاجة إلى كونهم نيامًا أو أيقاظًا وهما سواءٌ؟ إلَّا أنَّ قتلهم نيامًا أدخلُ في الغيلة، فنبَّه على جوازها في مثل هذا، هذا كلامه، وهو عجيبٌ وتصحيفٌ غريبٌ فاحذرْه، ولمَّا ذكره صاحب «المطالع» قال: هو مِنَ البيات وهو الطَّرقُ إغفالًا مِن اللَّيل.
          ثانيها: ذِكرُه حديث الحِمى هنا نظير الحديث السَّالف: ((نحن الآخرون السَّابقون)) ثُمَّ ذكر حديثًا آخرَ معه ليس فيه شيءٌ مِنْ معناه، لأنَّهم كانوا يحدِّثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد يُتلمَّح له هنا معنًى فتدبَّرْه.
          ثالثها: ذكر الدَّاوُديُّ هنا أنَّ مَنْ كان بالمدينة مِنَ الصَّحابة يروي عمَّن كان خارجًا منها، ليس أحدٌ يحيط بالحديث أجمعَ، يريد أنَّ الصَّعب بن جَثَّامة ليس مِنْ ساكني المدينة.
          رابعها: معنى قوله: (هُمْ مِنْهُمْ) يريد _كما قال الخَطَّابيُّ_ في حكم الدِّين؛ فإنَّ ولد الكافر محكومٌ له بالكفر، قال: ولم يُرد بهذا القولِ إباحةَ دمائهم تعمُّدًا لها وقصدًا إليها، وإنَّما هو إذا لم يصل إلى قتل الآباء إلَّا بذلك، وإلَّا فلا يُقصدون بالقتل مع القدرة على ترك ذلك.
          ومعنى النَّهي عن قتل النِّساء والصِّبيان في الباب الَّذي بعد هذا أن يُقصدوا بالقتل مع القدرة على تمييزهم، إلَّا أنَّ النِّساء إذا قاتلن قُتلنَ لأنَّ العلَّة المانعة مِنْ قتلهنَّ عدمُ القتل مِنهنَّ.
          وقد اختَلف العلماء في العمل بهذا الحديث:
          فتركه قومٌ وذهبوا إلى أنَّه لا يجوز قتلُ النِّساء والولدان في الحرب على حالٍ، وأنَّه لا يحلُّ أن يُقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يُؤمَن في ذلك تلفُهم، مثل أن يتترَّس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيعَ المسلمون منهم إلَّا بإصابة صبيانهم، فحرامٌ عليهم رميُهم، وكذلك إذا تحصَّنوا بحصنٍ أو سفينةٍ وجعلوا فيها نساءً وصبيانًا أو أسارى مسلمين، فحرامٌ رمي ذلك الحصن وحرقُ تلك السَّفينة إذا كان يُخاف تلفُ الأسارى والنِّساء والصِّبيان.
          واحتجُّوا / بعموم قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] هذا قول مالكٍ والأوزاعيِّ.
          وقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: إنَّما وقع النَّهي عن قتل النِّساء والصِّبيان إذا قُصِد إلى قتلهم، فأمَّا إذا قُصد إلى قتل غيرهم ممَّن لا يُوصل إلى ذلك منه إلَّا بتلفِ نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك.
          واحتجُّوا بقوله صلعم: (هُمْ مِنْهُمْ) فلمَّا لم ينهَهُم الشَّارع عَن الإغارة، وقد كان يعلم أنَّهم يصيبون فيها الولدان والنِّساء الَّذين يحرم القصد إلى قتلهم، دلَّ ذلك على أنَّ ما أباح في حديث الصَّعب لمعنًى غير المعنى الَّذي مِنْ أجله منعَ قتلهم في حديث ابن عمرَ في الباب بعده، وأنَّ الَّذي مَنع مِنْ ذلك هو القصد إلى قتلهم، وأنَّ الَّذي أباح هو القصدُ إلى قتل المشركين، وإن كان في ذلك تلفُ غيرهم ممَّن لا يحلُّ القصد إلى قتله حتَّى لا تتضادَّ الآثار، وقد أمر الشَّارعُ بالإغارة على العدوِّ في آثارٍ متواترةٍ، ولم يمنعه مِنْ ذلك ما يحيط به علمًا أنَّه لا يؤمَن تلفُ النِّساء والولدان في ذلك، والنَّظر يدلُّ على ذلك أيضًا، وقد أحبط الشَّارع ثنايا العاضِّ، فكان يُباح البيات وإن كان فيه تلفُ غيره ممَّا حرِّم علينا.