التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل الجهاد

          ░1▒ (بَابُ: فَضْلِ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ وقول الله _╡_: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [التوبة:110-111] قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ: الحُدُودُ الطَّاعَةُ).
          ثُمَّ ذكر فيه أربعةَ أحاديثَ:
          2782- أحدها: حديث ابن مَسعودٍ: (ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكره مِنْ طريق مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ قَالَ: (سَمِعْتُ الوَلِيدَ بْنَ العَيْزَارِ، ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسعودٍ) فذكره.
          2783- ثانيها: حديث ابْنِ عبَّاسٍ: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ...).
          2784- ثالثها: حديث عائشةَ: (يَا رَسُولَ اللهِ تُرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ).
          2785- رابعها: حديث أبي هريرة: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ _صلعم_ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ، قَالَ: لا أَجِدُهُ، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ المُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ).
          الشَّرح: هذا الباب مذكورٌ هنا في جميع النُّسخ والشُّروح خلا ابنَ بَطَّالٍ فإنَّه ذكره عقيب الحجِّ والصَّوم قبل البيوع، ولمَّا وصَل إلى هنا وَصل بكتاب الأحكام، وأحاديث الباب تقدَّمت إلَّا حديثَ أبي هريرة، وقدْ أخرجه مسلمٌ والأربعة، وأمَّا الآية فهي تمثيلٌ مثل {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] ولمَّا جُوْزُوا بالجنَّة على ذلك عبَّر عنه بلفظ الشِّراء تجوُّزًا.
          وقوله: ({فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}) فيه بشرى، وهي أنَّ القاتل والمقتول معًا في الجنَّة، وقال بعض الصَّحابة: ما أبالي قَتَلْتُ في سبيل الله أو قُتِلتُ، وتلا هذه الآية، وهذا يردُّ على الشَّعْبيِّ في قوله: إنَّ الغالب في سبيل الله أعظم أجرًا مِنَ المقتول.
          ({التَّائِبُونَ}) مِنَ الذُّنوب ({الْعَابِدُونَ}) بالطَّاعة أو بالتَّوحيد أو بطول الصَّلاة أقوالٌ، وقال الحسن: {التَّائِبُونَ} مِنَ الشِّرك {الْعَابِدُونَ} لله وحده، وقال الدَّاوُديُّ: كلَّما كانت منهم غفلةٌ أو سهوٌ أو خطئةٌ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم.
          ({الْحَامِدُونَ}) على السَّرَّاء والضَّرَّاء أو على الإسلام.
          ({السَّائِحُونَ}) المجاهدون، أو الصَّائمون واستُؤذن _◙_ في السِّياحة فقال: ((سياحةُ أُمَّتي في الجهاد))، وفي روايةٍ: ((الصَّوم)) وصحَّ عن ابن مَسعودٍ أنَّها الصَّوم، قيل له: سائحٌ لأنَّه تاركٌ للمفطرات فهو كهو، وقيل: السَّائحون: المهاجرون، وقيل: طلبة العلم.
          ({بِالْمَعْرُوفِ}) التَّوحيد أو الإسلام، ({الْمُنْكَرِ}) الشِّرك، أو الَّذين لم ينهَوا عنه حتَّى انتهَوا عنه.
          ({وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ}) القائمون بأمره، والعاملون بأمره ونهيه، أو بفرائض الله حلاله وحرامه، أو بشرطه في الجهاد، قال بعض العلماء: إذا كان النَّاهُونَ عن المنكر الثُّلثَ، والعاملون له الثُّلثين وجب على النَّاهين جهاد الفاعلين قياسًا على أهل الكفر، وقال ابن مجاهدٍ: إنَّما يكون باليد واللِّسان لا بالسَّيف إلَّا في المحاربين، وأتى بالواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ} ومَا بعده لأنَّ مَا بعد السَّبع مِنَ النُّعوت يأتي بالواو.
          ({وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}) المصدِّقين بما وُعدوا في هذه الآيات، أو بما نُدبوا إليه فيها، فلمَّا نزلت {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى} جاء رجلٌ مِنَ المهاجرين فقال: يا رسول الله، وإنْ زنا وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فنزلت {التَّائِبُونَ}، ومَا ذكره عن ابن عبَّاسٍ في تفسير الحدود أنَّها الطَّاعة، ذكره إسماعيل بن أبي زيادٍ الشَّاميُّ / في «تفسيره» عنه، وذكر الحاكم في «إكليله» أنَّ هذه الآية الكريمة هي أوَّل آية نزلت في الإذن بالقتال، وفي «مستدركه» عنه على شرطهما: أوَّل آيةٍ نزلت فيه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية [الحج:39].
          وحديث ابن مَسعودٍ سلف شرحُه في الصَّلاة [خ¦527]، وأنَّ اختلاف الأحاديث كان لاختلاف السَّائلين ومقاصدهم.
          وجمع الدَّاوُديُّ أيضًا بألَّا اختلاف إنْ أوقع الصَّلاة في ميقاتها كان الجهاد مقدَّمًا على برِّ أبويه، وإن أخَّرها عن وقتها كان برُّ أبويه مقدَّمًا على الجهاد، قال الطَّبَريُّ: ومعنى الحديث أنَّ هذه الخصال أفضلُ الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أنَّ مَنْ ضيَّعَ الصَّلاة المفروضة حتَّى خرج وقتُها بغير عذرٍ يُعذر منه مع خفَّة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شكَّ لغيرها مِنْ أمر الدِّين والإسلام أشدُّ تضييعًا، وبه أشدُّ تهاونًا واستخفافًا، وكذلك مَنْ ترك برَّ والديه وضيَّع حقوقهما مع عظم حقِّهما عليه، وتربيتهما إيَّاه وتعطُّفهما عليه ورفقهما به صغيرًا، وإحسانهما إليه كبيرًا، وخالف أمر الله ووصيَّته إيَّاه فيهما فهو لغير ذلك مِنْ حقوق الله أشدُّ تضييعًا.
          وكذلك مَنْ ترك جهاد أعداء الله _تعالى_ وخالف أمره في قتاله مع كفرهم بالله، ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب فهو كجهاد مَنْ هو دونه مِنْ فُسَّاق أهل التَّوحيد، ومحاربة مَنْ سواه مِنْ أهل الزَّيغ والنِّفاق أشدُّ تركًا، فهذه الأمور الثَّلاثة تجمع المحافظةُ عليهنَّ الدِّلالةَ على محافظته على سواهنَّ، ويجمع تضييعُهن الدِّلالةَ على تضييع ما سواهنَّ مِنْ أمر الدِّين والإسلام، فلذلك خَصَّهُنَّ _◙_ بأنَّهنَّ أفضل الأعمال.
          وحديث ابن عبَّاسٍ: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ) أسلفنا تأويله [خ¦1834]، وقال ابن التِّيْنِ: يُريد: لِمَنْ لم يكن هاجر، دليلُه الحديث الآخر: ((أُذِنَ للمُهاجر أن يقيمَ بمكَّة ثلاثًا بعد الصَّدر)) وكذلك في حديث سعدٍ: أُخلَّف بعد أصحابي؟ فقال: ((اللهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ)) وقيل: كانت الهجرة ضربان:
          أحدهما: أنَّ الآحاد مِنَ القبائل كانوا إذا أسلموا وأقاموا في ديارهم بين ظهراني قومهم أُوذُوا فَأُمِروا بالهجرة ليسلَم لهم دينُهم.
          ثانيهما: أنَّ أهل الدِّين بالمدينة كانوا في قلَّةٍ مِنَ العدد وضعفٍ مِنَ القوَّة، فوجب على مَنْ أسلم أن يحضر النَّبيَّ _صلعم_ ليستعين به في حدوث حادثةٍ، وليتفقَّهوا في الدِّين ويُعلِّموا قومهم عند رجوعهم، فلمَّا فُتِحَت مكَّة استغنَوا عن ذلك إذ كان معظمُ الخوف على المسلمين مِنْ أهل مكَّة فلمَّا أسلموا أُمر المسلمون أن يغزوا في عقر دارهم، فقيل لهم: أقيموا في أوطانكم وقرُّوا على نيَّة الجهاد فإنَّ فرضه غيرُ منقطعٍ مدى الدَّهر، وكان الجهاد في زمنه فرض كفايةٍ، وقيل: عينٍ، وقيل: على الأنصار، والخلاف في كونه كان فرض كفايةٍ حكاه المالكيَّة أيضًا، وقال سُحْنُون: كان في أوَّل الإسلام فرض عينٍ والآن مرغَّبٌ فيه، وقال الْمُهَلَّبُ: كانت الهجرة فرضًا في أوَّل الإسلام على مَنْ أسلم لقلَّتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتَّأليف، فلمَّا فتح الله _تعالى_ مكَّة دخل النَّاس في دينه أفواجًا سقط فرضُ الهجرة وبقي فرض الجهاد والنِّيَّة على مَنْ قام به، أو نزل به عدوٌّ.
          وحديث عائشةَ ضبطه عند أبي ذرٍّ <لَكُنَّ> بضمِّ الكاف على معنى ضمير جماعة النِّساء، وعند غيره بكسرها، ويبيِّن الأوَّل حديث يأتي بعد هذا ((جِهَادكُنَّ الحجُّ)) وقد سلف الخُلف فيه أيضًا [خ¦1520].
          و(الْمَبْرُور) الَّذي لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدالَ، وإنَّما جُعل الحجُّ أفضلَ للنِّساء مِنَ الجهاد لقلَّة غنائهنَّ فيه.
          وحديث أبي هريرة فيه أنَّ المجاهد على كلِّ أحواله يُكتب له ما كان يكتب للمتعبِّد، فالجهاد أفضل مِنَ التَّنفُّل بالصَّلاة والصِّيام.
          وقول أبي هريرة: (إِنَّ فَرَسَ المُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ) أي ليمرحُ قاله ابن التِّيْنِ، وهو يفتعل مِنَ السَّنن يُقال: فلانٌ سَنَن الرِّيحِ والسَّيل إذا كان على جهتهما، وأهل الحجاز يقولون: سُنَنٌ بضمِّ السِّين، والطِّوَل _بكسر الطَّاء وفتح الواو_: الحبل تشدُّ به الدَّابَّة ويُمسِك صاحبها بطرفه ويرسلها تَرعى.
          وقوله: (دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: لَا أَجِدُ) يريد: إذا أتى المجاهد بالصَّلاة في ميقاتها.