شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم

          ░191▒ باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبلِ والغَنَمِ في المَغَانمِ
          فيه: رَافِعٌ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبيُّ صلعم في أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وفي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللهُ، فَقَالَ: هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا). [خ¦3075]
          قال المُهَلَّب: إنَّما أمر رسول الله صلعم بإكفاء القدور من لحوم الإبل والبقر وأكلها جائزٌ، فيء دار الحرب بغير إذن الإمام عند العلماء.
          هذا قول مالكٍ واللَّيث والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وجماعةٍ من العلماء رخَّصوا في ذبح الأنعام في بلاد العدوِّ للأكل وفي أكل الطَّعام؛ لأنَّ هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنَّما ذبحوه بذي الحليفة وهي أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا في أرض الإسلام إلَّا ما قسم لهم؛ لأنَّها غنيمةٌ فاضلةٌ، وإباحة الأكل من المغنم إنَّما هو في أرض العدوِّ وقبل تخليص الغنيمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما.
          وقد قال الثَّوريُّ والشَّافعيُّ: إنَّ ما أخذه المرء من الطَّعام في أرض العدوِّ فيفضل منه فضلةٌ ويقدم بها إلى بلدة الإسلام أنَّه يردُّها إلى الإمام. وقال أبو حنيفة: يتصدَّق به، فكيف من يتسوَّر فيه في أرض الإسلام ويأخذه بغير إذن الإمام؟
          ورخَّص مالكٌ في فضلة الزَّاد مثل الخبز واللَّحم إذا كان يسيرًا لا بال له. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال اللَّيث: أحبُّ إليَّ إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه. وقال الأوزاعيُّ: يهديه إلى أهله. وأمَّا البيع فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه في المغنم، فإن فات ذلك تصدَّق به عن الجيش، ورخَّص فيه سليمان بن موسى.
          قال المُهَلَّب: وأمرهم صلعم بإكفاء القدور ليعلمهم أنَّ الغنيمة إنَّما يستحقُّونها بعد قسمته لها فلا يفتاتوا في أخذ شيءٍ قبل وجوبه لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7]ولقوله: {يَا أَيُّهَا آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات:1].
          قال الحسن: إنَّ هذه الآية نزلت في أهلٍ نحروا قبل أن يصلَ النَّبيُّ صلعم فأمرهم أن يعيدوا الذَّبح.
          وقال مجاهدٌ في هذه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله صلعم بشيءٍ حتَّى يقضيه الله على لسانه. وقال الكلبيُّ: لا تقدِّموا بين يدي الله ورسوله بقولٍ ولا فعلٍ.
          وفيها: قولٌ آخر ذكره ابن المنذر، عن سِمَاك بن حربٍ، عن ثعلبة بن الحكم قال: أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها، فجاء رسول الله صلعم وقدورهم تغلي فقال: ((إنَّها نُهبةٌ فأكفئوا القدور وما فيها؛ فإنَّها لا تحلُّ النُّهبة)).
          قال بعض أهل العلم: هذا يدلُّ أنَّهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدوِّ؛ لأنَّ النُّهبة مباحةٌ في بلاد العدوِّ وغير مباحةٍ في دار الإسلام، وهذه القصَّة أصلٌ في جواز العقوبة في المال.
          وقوله: (فَأُكفِئَت) قال الطَّبريُّ: الأشهر والأفصح في كلام العرب أن يقال: كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى ((أكفأت)) محكيَّة ذكرها ابن الأعرابيِّ عن العرب. وسيأتي ما في الحديث من الغريب في كتاب الذَّبائح إن شاء الله تعالى. [خ¦72/36-8248]