شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الشجاعة في الحرب والجبن

          ░24▒ باب الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ في الْحَرْبِ.
          فيه: أَنَسٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبيُّ صلعم سَبَقَهُمْ على فَرَسٍ، قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا). [خ¦2820]
          وفيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: (بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبيِّ صلعم وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَتِ الأَعرَابُ يَسألُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إلى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ صلعم فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا). [خ¦2821]
          قال المُهَلَّب: فيه أنَّ الرئيس قد يشجع في بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوَّة وإن كان اللَّازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا رأى الفزع المستولي علم أنَّه ليس يُكَاد بما أخبره الله في قوله: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]وأنَّه لا بدَّ أن يتمَّ أمره حتَّى تمرَّ المرأة من الحيرة حتَّى تطوف بالكعبة لا تخاف إلَّا الله؛ فلذلك أمن صلعم فزعهم باستبراء الصَّيحة، وكذلك كلُّ رئيسٍ إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوَّة فينبغي له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه، وفيه استعمال المجاز في الكلام؛ لقوله في الفرس: (إنَّه بحرٌ) فشبَّه ذلك لأنَّ الجري منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأوَّل من تكلَّم بهذا رسول الله، وسأزيد في هذا المعنى في باب: اسم الفرس والحمار، بعد هذا إن شاء الله. [خ¦2857]
          وفيه استعارة الدَّوابِّ للحرب وغيره، وفيه ركوب الدَّابَّة عُريًا لاستعجال الحركة.
          قال المؤلِّف: وفي حديث جبيرٍ أنَّه لا بأس للرَّجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشَّريفة عندما يخاف من سوء ظنِّ أهل الجهالة به. وفيه أنَّ البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التي لا تصلح أن تكون في رؤساء النَّاس، وأمَّا من كانت فيه خلَّة منها لم يتَّخذه المسلمون إمامًا ولا خليفةً، وكذلك من كان كذوبًا فلا يُتَّخذ إمامًا في دين الله؛ لأنَّ الكذب فجورٌ لقوله صلعم: ((الكذب يهدي إلى الفجور)) ولا يؤمَن على وحي الله وسنَّة رسوله الفجَّار، وإنَّما يؤمَن عليه أهل العدالة كما قال صلعم: ((يحمل هذا العلم من كلِّ خلفٍ عدوله)).
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ الإلحاف في المسألة قد يرد بالقول والعِدَة كما قال صلعم: (لَوْ أَنَّ(1) لي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ) والوعد من النَّبيِّ صلعم في حكم الإنجاز واجبٌ لقوله: (ثُمَّ لا تَجِدُونِي كَذُوبًا).
          وفيه: الصَّبر لجهلة النَّاس وجفاة السُّؤَّال وإن ناله في ذلك أذى. وسؤاله رداءه تأنيسًا لهم من الأذى والجفاء عليه والمزاحمة في الطَّريق، ثمَّ ردَّ إلحافهم بأن أعلمهم أنَّ ما ملكه مقسومٌ بينهم وأنَّ وعده منجزٌ لهم، وأنَّ الذي يسألونه من قتالهم وعونهم به ليسوا بالمتقدِّمين عليه فيه؛ بل هو المقدَّم عليهم في القتال وفي كلِّ حالٍ لقوله: (وَلا جَبَانًا) ولم ينكر أحدٌ منهم ما وصف به نفسه لاعترافهم به.
          وقال أبو عبيدٍ: العضاه من الشَّجر كلُّ ما له شوكٌ ومن أعرف ذلك الطَّلْح والسَّيل والسَّيال والعُرفُط والسَّمُر، وقال غيره: والقتاد.


[1] في (ص): ((أن)).