شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب في اللقطة]

          [ ░░45▒▒ كِتَابُ اللُّقَطَةِ /
          ░1▒ بَابٌ إِذَا أَخْبَرَه(1) رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالعَلاَمَةِ دُفَعَ(2) إِلَيْهِ
          فيهِ سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ: (لَقِيتُ أبيَّ بنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَصَبْتُ(3) صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا، فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَلَقِيهُ(4) بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ]
(5): لَا أَدْرِي أثَلاَثَةَ(6) أَحْوَالٍ أَو(7) حَوْلًا(8) وَاحِدًا). [خ¦2426]
          هذا الحديثُ لم يقلْ بظاهره أحدٌ مِنْ أئمَّةِ الفتوى أنَّ اللُّقَطَةِ تُعَرَّفُ ثلاثة أعوامٍ، لأنَّ سُوَيْدَ بنَ غَفَلَةَ قد وقف عليه أُبِيُّ بنُ كَعْبٍ مَرَّةً أخرى حين لقيه بمكَّة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوالٍ أم(9) حولًا واحدًا، وهذا الشَّكُّ يوجبُ سقوطَ التَّعريفِ ثلاثة أحوالٍ(10)، ولا يُحفظ عن أحدٍ قال ذلك إلَّا روايةً جاءتْ عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب ذكرها عبدُ الرَّزاقِ عن ابنِ جُرَيْجٍ قال: قال مُجَاهِدٌ: وجد سُفْيَانُ بنُ عبدِ اللهِ(11) عبيةً فيها مالٌ عظيمٌ، فجاء بها عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَعَرَّفَهَا سَنَةً ثمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً فَعَرَّفَهَا(12) ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَعَرَّفَهَا(13) ثُمَّ جَاءَهُ بِهَا، فَجَعَلَهَا عُمَرُ في بَيْتِ مَالِ المسلمينَ.
          وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ☺ أنَّ اللُّقَطَةَ تُعَرَّفُ سنةً مثل قولِ الجماعة، وممَّن رُوِيَ عنه أنَّها تُعَرَّفُ سنةً: عليُّ بنُ أبي طالبٍ وابنُ عبَّاسٍ وسَعِيْدُ بنُ المُسَيَّبِ والشَّعْبِيُّ، وإليه ذهب مالكٌ والكوفيُّونَ والشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ، واحتجُّوا بحديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ.
          واختلف العلماءُ إذا جاء ربُّ اللُّقَطَةِ بالعلامةِ هل يلزمه إقامةُ البيِّنةِ أنَّها له أم لا؟ فقَالَ مَالِكٌ واللَّيثُ وجماعةٌ مِنْ أهلِ الحديثِ: إذا جاءَ بعلامتها وجبَ أن يأخذَها، ولم يُكَلَّفْ إقامةَ البيِّنةِ. وبه قال أحمدُ بنُ حنبلٍ، وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والشَّافعيُّ: لا يأخذْها إلَّا بعد إقامةِ البيِّنةِ.
          قال ابنُ القَصَّارِ: وحُجَّةُ مالكٍ قوله ◙: (اعرِفْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) ولم يقلْ: فإنْ جاء صاحبُها وأقامَ بيِّنةً، وإنَّما أمر المُلْتَقِطَ بمعرفةِ الوعاءِ والوكاءِ ليضبطَها، فإذا جاء طالبُها وعَرَفَ صفتها سُلِّمَتْ إليه، ولو لم يجبْ عليه دفعُها(14) إلى مَنْ يأتي بصفتها لم يكن لمعرفةِ صفتِها معنًى، ولو كُلِّفَ البيِّنةَ لتعذَّرَ(15) عليه، لأنَّه لا يعلمُ متى تسقط(16) فيشهد عليها مِنْ أجل ذلك.
          واحتجَّ الآخرون بقولِه ◙: ((البَيِّنَةِ عَلَى المُدَّعِي))، وصاحب اللُّقَطَةِ مُدَّعٍ(17) فلا يستحقُّها إلَّا بالبيِّنةِ، فأجابهم أهلُ المقالة الأولى فقالوا: البيِّنةُ إنَّما تجب على المدَّعِي إذا كان المُدَّعَى عليه ممَّن يدَّعِي الشَّيء المدَّعَى فيه لنفسِه.
          والمُلتَقِطُ لا يَدَّعِي اللُّقَطَةَ لنفسه، ألا ترى أنَّ المُلْتَقِطَ لو ادُّعِى عليه اللُّقَطَة بغير صفةٍ ولا بيِّنةٍ فأنكر(18) لم يكن عليه يمينٌ، فعُلِمَ بهذا أنَّ البيِّنة إنَّما تجب في موضع يُدَّعَى عليه ذلك الشَّيء، وهو يدَّعيه لنفسِه.
          قال ابنُ حَبِيبٍ: وأكثرُ ما يمكن في اللُّقَطَةِ أن يُقْبَلَ منه الصِّفَةُ ويحلف على ذلك، فيكون بمنزلةِ شاهدٍ ويمينٍ، وهو قول سُحْنُونٍ، وقال سُحْنُونٌ: أصحابنا يقولون باليمين، وهو قول أَشْهَبَ، وقال: إن نكل عن اليمين لم يأخذها، ومِنِ النَّاسِ مَنْ يقول: لا يمينَ عليه.
          قال ابنُ القَصَّارِ: وقول مَنْ رأى اليمينَ أحوطُ(19)، وقال الأَبْهَرِيَّ: العَلَامَةُ تقومُ مقامَ اليمين، وهو الَّذي يقتضي الحديث، ويدلُّ عليه.
          واختلفوا إذا جاء بصفتِها ودفعَها إليه، ثمَّ جاء آخر فأقامَ بيِّنةً أنَّها له، فقال ابنُ القَاسِمِ: لا يضمن المُلْتَقِطُ شيئًا لأنَّه فعل ما وجب عليه، وهو أمينٌ والشَّيء ليس بمضمونٍ عليه في الحكم(20) فيها عنده أن تقسم بين صاحبِ الصِّفةِ وصاحب البيِّنةِ، كما يحكم في نفسين إذا(21) ادَّعيا شيئًا وأقاما بيِّنةً.
          وقال أَشْهَبُ: إذا أقام الثَّاني البيِّنةَ حُكِمَ له بها على الَّذي أخذها بالعَلَامَةِ، وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والشَّافعيُّ: إذا أقام الثَّاني البيِّنةَ فعلى الملتقطِ الضَّمَانُ، وقولُ ابنِ القَاسِمِ أولى لأنَّ / الضَّمَانَ لا يلزم فيما سبيله الأمانةُ، ولا خلافَ عن مالكٍ وأصحابه أنَّ الثَّاني إذا أتى بعلامتِها بلا(22) بيِّنةٍ أنَّه لا شيء له.


[1] في المطبوع: ((أخبر)).
[2] في المطبوع: ((دفعت)).
[3] في المطبوع: ((وجدت)).
[4] في المطبوع: ((فلقيته)).
[5] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[6] في (ز): ((ثلاثة)).
[7] في المطبوع: ((أم))، وغير واضحة في (ص).
[8] قوله: ((حولًا)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((أو)).
[10] في (ز): ((أعوام)).
[11] زاد في (ز): ((الثَّقَفِيُّ)).
[12] قوله: ((فعرِّفها)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((فعرَّفها)) ليس في (ص).
[14] في (ز): ((تسليمها)).
[15] في (ز): ((لتعذَّرت)).
[16] زاد في (ز): ((له)).
[17] في (ص): ((مدَّعي)).
[18] في المطبوع: ((وأنكر)).
[19] في (ز): ((أجود)).
[20] في (ز): ((عليه والحكم)).
[21] قوله: ((إذا)) ليس في (ز).
[22] صورتها في (ز): ((فلا))، وغير واضح في (ص).