شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[أبواب التهجد]

          ░░19▒▒ بابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:79]
          أي: اسهر نافلةً لك(1).
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ رسُولُ الله صلعم إِذَا قَامَ(2) مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ(3)). [خ¦1120]
          التَّهجُّد عند العرب: التَّيقُّظ والسَّهر بعد نومةٍ من اللَّيل، والهجود أيضًا النَّوم، يقال تهجَّد: إذا سهر، وهجد: إذا نام.
          وقوله: {نَافِلَةً لَّكَ}(4)[الإسراء:79]يعني فضلا لك عن فرائضك.
          واختلف في المعنى الَّذي من أجله خُصَّ بذلك رسول الله صلعم فقال بعضهم: إنَّما خُصَّ بذلك لأنَّها(5) كانت عليه فريضةً ولغيره تطوعًا، فقال(6): أقمها نافلةً لك: عن ابن عبَّاسٍ.
          وقال مجاهدٌ: إنَّما قيل له ذلك لأنَّه لم يكن فِعله ذلك يكفِّر عنه شيئًا من الذُّنوب، لأنَّ الله تعالى كان قد(7) غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فكان له نافلة فضلٍ وزيادةٍ، فأمَّا غيره فهو كفَّارةٌ له(8) وليس له نافلةٌ.
          وقال(9) الطَّبريُّ: وقول ابن عبَّاسٍ أولى بالصَّواب، لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد كان(10) خصَّه الله تعالى بما فرضه عليه(11) من قيام اللَّيل دون سائر أمَّته، ولا معنى لقول مجاهدٍ لأنَّ النَّبيَّ صلعم كان أشدَّ استغفارًا لربِّه بعد نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ(12) اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2]وذلك أنَّ(13) هذه السُّورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية وأُنزل(14) عليه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1]عام قُبِض، وقيل له فيها {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]فكان يُعَدُّ استغفاره في المجلس الواحد مائة مرَّةٍ، ومعلومٌ أنَّ الله تعالى لم يأمره أن يستغفره إلَّا بما يغفر له باستغفاره(15) فبان فساد قول مجاهدٍ.
          وقال قَتادة نافلةً لك(16): تطوُّعًا وفضيلةً.
          وفي حديث ابن عبَّاسٍ تهجُّده ◙ وأنَّه كان يدعو عند قيامه ويخلص الثَّناء على الله ╡ بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده وفيه الأسوة الحسنة(17).
          وقوله: (أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) فيه ثلاث لغاتٍ يقال: قَيَّام وقَيُّوم وقَيِّم. قال مجاهدٌ: القيُّوم القائم على كلِّ شيءٍ وكذلك قال أبو عبيدة.
          وقوله: (أَنْتَ نورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) أي بنورك يهتدي من في السَّماوات والأرض(18).
          وقوله: (أنتَ الحَقُّ) فالحقُّ(19) اسمٌ من أسمائه وصفةٌ ومن(20) صفاته. (وَقَولُك الحَقُّ) يعني قولك الصِّدق والعدل. /
          (وَوَعْدُك حقٌّ(21)) يعني لا تخلِف الميعاد وتجزي الَّذين أساءوا بما عملوا؛ إلَّا ما تجاوز عنه(22)، وتجزي الَّذين أحسنوا بالحسنى.
          وقوله: (وَلِقَاؤك حَقٌّ(23) وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّار حَقٌّ) فيه الإقرار(24) بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنَّار، والإقرار بالأنبياء ‰.
          وقوله: (لَكَ أسْلَمْتُ) معناه: انقدتُ لحكمك وسلَّمتُ ورضيت.
          وقوله: (وَبِكَ(25) آمنتُ) يعني صدَّقت بك وبما(26) أنزلت، والإيمان في اللُّغة: التَّصديق.
          (وعليكَ تَوكَّلْتُ) تبرَّأَ إليه(27) من الحول والقوَّة وصرف أموره إليه ╡(28). قال الفرَّاء: الوكيل: الكافي.
          وقوله: (إِلَيكَ أَنَبتُ) أي أطعت أمرك، والمنيب المقبل بقلبه إلى الله ╡ (وبِكَ خاصَمْتُ) يقول(29): بما آتيتني من البراهين احتججت.
          (وَإِلَيكَ حَاكَمْتُ) يعني إليك احتكمت مع كلِّ من أبى قبول الحقِّ والإيمان، وكان ◙ يقول عند القتال: ((اللَّهُمَّ أنزِلِ الحَقَّ)) ويستنصر.
          وقوله: (اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأعْلَنْتُ) أمر الأنبياء وإن كانوا قد غُفر لهم أن يستغفروا الله ويدعوا(30) الله، ويرغبوا إليه، ويرهبوا منه(31)، وكان صلعم يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّي أستغفِرُكَ مِنْ عَمدِي وخَطَئي وجَهْلي وظُلْمي(32)، وكلُّ ذلكَ عِندِي)) يقرُّ على نفسه بالتَّقصير، وكان يقول في سجوده: ((اللَّهُمَّ باعِدْ بَينِي وبينَ خَطايايَ كَما باعَدتَ بينَ المشرِقِ والمغرِبِ، اللَّهُمَّ نقِّني مِنَ الذُّنوبِ كما نَقَّيتَ الثَّوبَ الأبيضَ مِنَ الدَّنسِ)).
          وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه أنَّهم يجتهدون في الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، فأمَّتهم أحرى بذلك. قاله الداووديُّ(33).
          قال المُهَلَّب: وقوله(34): (أَنتَ المقَدِّم، وأنْتَ المؤَخِّر) يعني أنَّه قُدِّم في البعث إلى النَّاس على(35) غيره ◙ بقوله(36): ((نحنُ الآخِرونَ السَّابقونَ)) ثمَّ قدَّمه عليهم يوم القيامة بالشَّفاعة(37) بما(38) فضَّله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرُّسل.


[1] قوله: ((أي اسهر نافلة لك)) ليس في (م).
[2] في (ق) و(م): ((فيه ابن عباس أن النبي صلعم كان إذا قام)).
[3] قوله: ((أو لا إله غيرك)) ليس في (ق) و(م).
[4] قوله: ((لك)) ليس في (ق).
[5] في (ق): ((بأنها)).
[6] في (ق) و(م): ((فقيل)).
[7] في (ق): ((قد كان)).
[8] في (ق) و(م): ((فهو له كفارة)).
[9] في (ق) و(م) و(ص): ((قال)).
[10] في (م): ((كان قد)).
[11] في (ق): ((لان الله تعالى قد كان خصه ◙ بما فرض عليه)).
[12] قوله: ((لك)) ليس في (ز).
[13] في (ص): ((لأنَّ)).
[14] في (ق) و(م): ((وأنزلت)).
[15] في (ص): ((استغفاره)).
[16] قوله: ((لك)) ليس في (ق).
[17] في (ق): ((وفيه أسوة حسنة)).
[18] في (ص): ((ومن في الأرض)).
[19] في (م): ((والحق)).
[20] في (ص): ((من)).
[21] في (ص): ((الحق)).
[22] قوله: ((وتجزي الذين أساءوا بما عملوا؛ إلا ما تجاوز عنه)) ليس في (ق).
[23] في (ق): ((الحق)).
[24] في (ق): ((فالإقرار)).
[25] في (ص): ((بك)).
[26] في (ق): ((فيما)).
[27] في (ص): ((إليك)).
[28] في (ص): ((وصرف أمورنا إليك)).
[29] قوله: ((يقول)) ليس في (ي).
[30] في (ق) و(م): ((يستغفروا ويدعوا)).
[31] قوله: ((ويرهبوا منه)) ليس في (ق)، و في (م): ((ويرهبوه)).
[32] قوله: ((وظلمي)) ليس في (ق)، و في (م): ((وظلمي وجهلي)).
[33] قوله: ((قاله الداودي)) ليس في (م). في (ص) لعلَّها: ((الرازي)) غير منقوطة.
[34] في (ق): ((قوله)).
[35] قوله: ((على)) ليس في (ق) و(م).
[36] في (ص): ((على غيره بقوله ◙)).
[37] في (م): ((عليهم بالشفاعة يوم القيامة)).
[38] في (ق): ((وبما)).