شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الجاسوس

          ░141▒ باب: الْجَاسُوسِ وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}[الممتحنة:1]
          فيه: عَلِيٌّ: بَعَثَنِي الرَّسُولُ صلعم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إلى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِها الرَّسُولَ صلعم فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أبي بَلْتَعَةَ إلى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبيِّ، فَقَالَ النَّبيُّ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، أوْ لأَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقَالَ النَّبيُّ ◙: قَدْ صَدَقَكُمْ، فقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ عَفوْتُ عنَكُمْ). [خ¦3007]
          قال الطَّبريُّ: في حديث حاطب بن أبي بلتعة من الفقه أنَّ الإمام إذا ظهر من رجلٍ من أهل السِّتر على أنَّه قد كاتب عدوًّا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسرَّه المسلمون فيهم من عزمٍ، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسَّفه والغشِّ للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوةً وزلَّةً من غير أن يكون لها أخواتٌ؛ فجائزٌ العفو عنه كما فعله الرَّسول صلعم بحاطبٍ من عفوه عن جرمه بعدما اطَّلع عليه من فعله.
          وهذا نظير الخبر الذي روت عَمْرة عن عائشة أن الرَّسول صلعم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلَّا حدًّا من حدود الله))، فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ صفحه ◙ إنَّما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرَّسول صلعم أن يعلم ذلك، فقد ظنَّ خطأً؛ لأنَّ أحكام الله في عباده إنَّما تجري على ما ظهر منهم.
          وقد أخبر الله نبيَّه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهراني أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرَّفه إيَّاهم بأعيانهم، ثمَّ لم يبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم في كلِّ أحدٍ من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن، وقد روي مثل ذلك عن الأئمَّة، روى اللَّيث بن سعدٍ، عن يزيد بن أبي منصورٍ قال: بلغ عُمَر بن الخطَّاب أنَّ عامله على البحرين أتى برجلٍ قامت عليه بيِّنةٌ أنَّه كاتب عدوًّا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه: أضرباس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلمَّا دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبَّيك، أضرباس لبَّيك. فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنَّه كاتبهم بعورة المسلمين وهمَّ أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأيُّنا لم يهمَّ، لولا أن تكون سيِّئةً(1) لقتلتك به.
          قال الطَّبريُّ: وفيه البيان عن بعض أعلام النُّبوَّة؛ وذلك إعلام الله نبيِّنا بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطبٍ إلى قريشٍ، ومكانها الذي هي به، وحالها الذي تغلب عليها من السِّتر، وكلُّ ذلك لا يُعلَم إلَّا بوحي / الله تعالى.
          وقال المُهَلَّب: وفيه هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية. وفيه: أنَّ الجاسوس قد يكون مؤمنًا، وليس تجسُّسه ممَّا يخرجه من الإيمان.
          وفيه: أنَّه لا يتسوَّر في قتل أحدٍ دون رأي الإمام.
          وفيه: إشارة الوزير بالرَّأي على السُّلطان وإن لم يستشره.
          وفيه: الاشتداد عند السُّلطان على أهل المعاصي، والاستئذان في قتلهم.
          وفيه: جواز العفو عن الخائن لله ورسوله بتجسُّسٍ أو غيره.
          وفيه: مراعاة فضيلةٍ سلفت، ومشهدٍ شاهده الجاسوس وغيره من المذنبين والتَّشفُّع بذلك له.
          وفيه: الحجَّة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك له بقوله: (لَعلَّ اللهَ اطلَعَ عَلى أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلُوا مَا شِئتُم؛ فَقَد غَفَرتُ لَكُم).
          وفيه: جواز غفران ما تأخَّر وقوعه من الذُّنوب قبل وقوعه، وسيأتي بعض معاني هذا الحديث في باب: المتأوِّلين، في آخر كتاب الدِّيات، [خ¦6939] وفي كتاب الاستئذان في باب: من نظر في كتاب من يُحذَر على المسلمين؛ ليستبين أمره. [خ¦6259]
          واختلف الفقهاء في المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالكٌ: ما فيه شيءٌ وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال أبو حنيفة والأوزاعيُّ: يوجع عقوبةً، ويُطَال حبسه. وقال الشَّافعيُّ: إن كان ذا هيئةٍ عفا الإمام عنه، واحتجَّ بهذا الحديث أنَّ النَّبيَّ ◙، لم يعاقب حاطبًا، وإن كان غير ذي هيئةٍ عزَّره الإمام؛ لأنَّه لا يحلُّ دم أحدٍ إلَّا بكفرٍ بعد إيمانٍ أو زنًا بعد إحصانٍ أو قتل نفسٍ.
          وقال ابن القاسم في «العتبية»: يضرب عنقه؛ لأنَّه لا تعرف توبته. وهو قول سَحنون، وقال ابن وهبٍ: يقتل إلَّا أن يتوب. وقال ابن الماجِشون: إن كان نادرًا من فعله، ولم يكن من أهل الطَّعن على الإسلام، فليُنَكَّل لغيره، وإن كان معتادًا لذلك فليقتل.
          ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدِّمين من العلماء، فلا وجه لقوله.
          واختلفوا في الحربيِّ المستأمن أو الذِّمِّيِّ يتجسَّس ويدلُّ على عورات المسلمين، فقال الثَّوريُّ والكوفيُّون والشَّافعيُّ: لا يكون ذلك نقضًا للعهد في حربيٍّ ولا ذمِّيٍّ، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه.
          وقال الأوزاعيُّ: قد نقض العهد وخرج من الذِّمَّة؛ فإن شاء الإمام قتله أو صلبه. وهو قول سَحنون، وقال مالكٌ في أهل الذِّمَّة إذا تلصَّصوا أو قطعوا الطَّريق: لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتَّى يمنعوا الجزية ويمتنعوا من أهل الإسلام فهؤلاء فيءٌ إذا كان الإمام عدلًا.
          وعند مالكٍ إذا استكره الذِّمِّيُّ مسلمة فزنى بها فهو نقضٌ للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد. وعند الشَّافعيِّ لا ينقض الذِّمَّة شيءٌ من فعله إلَّا الامتناع من أداء الجزية، أو الامتناع من الحكم؛ فإذا فعلوا ذلك نبذ إليهم.
          وقال الطَّحاويُّ: لم يختلفوا أنَّ المسلم لو فعل ذلك لم يبح دمه؛ فكذلك المستأمن، والذِّمِّيُّ قياسًا عليه. ولم يراع الطَّحاويُّ اختلاف أصحاب مالكٍ ولا غيره من المتقدِّمين مع خلافهم للحديث.
          والظَّعينة: المرأة في الهودج، ولا يقال لها: ظعينةً إلَّا وهي كذلك. قال الخطَّابيُّ: إنَّما قيل للمرأة: ظعينةً؛ لأنَّها تظعن مع زوجها إذا ظعن. والعِقَاص: السِّير الذي تجمع به شعرها على رأسها، والعَقصُ: الظَّفْر، والظَّفْر هو الفتل.
          وقوله: (إِنِّي كُنتُ مُلصَقًا فِي قُرَيشٍ) يعني: كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من لصاق الشَّيء بغيره؛ ليبين منه، ولذلك قيل: للدَّعيِّ في القوم ملصقٌ، عن الطَّبريِّ.


[1] كذا في (ص) والمطبوع، وفي التوضيح: ((سنة)).