شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[أبواب الاعتكاف]

          ░░33▒▒ كِتَاب الاعْتِكَافِ.
          ░1▒ بَابُ: الاعْتِكَافِ في(1) الْعَشْرِ الأوَاخِرِ.
          الاعْتِكَافِ(2) في الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ}الآية[البقرة:187].
          فيه: ابْنُ عُمَرَ وعَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، _زادت عائشةُ: حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ_ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ). [خ¦2026]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: مَنْ كَانَ(3) اعْتَكَفَ مَعِي(4) فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ، فَقَدْ أُرِيتُ(5) هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ أنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ)(6) الحديث. [خ¦2027]
          العكوف في اللُّغة: اللُّزوم للشَّيء والمقام عليه، وقال عطاء: قال يعلى بن أميَّة: إنِّي لأمكث في المسجد السَّاعة، وما أمكث إلَّا لأعتكف. قال عطاء: وهو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكفٌ وإلَّا فلا.
          وأجمع العلماء أنَّ الاعتكاف لا يكون إلَّا في المساجد(7) لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ(8)}[البقرة:187].
          وقال حذيفة: لا اعتكاف إلَّا في مسجد مكَّة والمدينة وبيت(9) المقدس.
          وقال سعيد بن المسيِّب: لا اعتكاف إلَّا في مسجد نبيٍّ، وذهب هؤلاء إلى أنَّ الآية خرجت على نوعٍ من المساجد، وهو ما بناه نبيٌّ لأنَّ الآية نزلت على النَّبيِّ صلعم وهو معتكفٌ في مسجده، فكان القصد(10) والإشارة إلى نوع تلك المساجد ممَّا بناه نبيٌّ، وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّه لا اعتكاف إلَّا في مسجد تجمع فيه الجمعة(11)، رُوي هذا القول عن عليٍّ وابن مسعود وعروة وعطاء والحسن وابن شهاب، وهو قول مالك في «المدوَّنة»، قال: أمَّا من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلَّا في الجامع، قال: وأقلُّ الاعتكاف عشرة أيَّامٍ، وروى عنه ابن القاسم في «العُتْبِيَّة»: لا بأس بالاعتكاف يومًا(12) ويومين، وقد رُوي أنَّ أقلَّه يوم وليلة، وقال في «المدوَّنة»: لا أرى أن يعتكف أقلَّ من عشرة أيَّام، فإن نذر دونها لزمه.
          وقالت طائفةٌ: الاعتكاف في كلِّ مسجدٍ جائزٌ(13)، رُوي ذلك عن النَّخَعِيِّ، وأبي سلمة والشَّعبيِّ، وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والشَّافعيِّ وأحمد، وهو قول مالك(14) في «الموطَّأ»، قال: لا أراه كره الاعتكاف في المساجد الَّتي لا يجمع فيها، إلَّا كراهية أن يخرج المعتكف من(15) مسجده الَّذي اعتكف فيه إلى الجمعة، فإن كان مسجدًا لا يجمع فيه، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه، فلا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه لأنَّ الله تعالى قال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187]فعمَّ المساجد كلَّها ولم يخصَّ منها شيئًا(16)، ونحوه قال الشَّافعيُّ:(17) المسجد الجامع أحبُّ إليَّ، وإن اعتكف في غيره فمن الجمعة إلى الجمعة.
          قال المُهَلَّب: وقول أبي سعيد في هذا الحديث: (حَتَّى إِذَا كَانَ لَيلَةَ إِحدَى وَعِشرِينَ، وَهِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي يَخرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعتِكَافِهِ) فليس معارضًا(18) لما رُوي في حديث أبي سعيدٍ (أنَّ النَّبيَّ صلعم خَرَجَ صَبِيحَةَ عِشرِينَ فَخَطَبَهُم) والمعنى واحد، وذلك أنَّه قد روى جماعة هذا الحديث وقالوا فيه: وهي اللَّيلة الَّتي يخرج فيها مِن اعتكافه. وهذا هو الصَّحيح لأنَّ يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتمُّ العشرة الأيَّام، لأنَّه دخل في أوَّل اللَّيل فيخرج في أوَّله، فيكون معنى قوله: (فِي لَيلَةِ إِحدَى وَعِشرينَ، وَهِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي يَخرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا) يريد الصَّبيحة الَتي قبل ليلة إحدى وعشرين، وأضافها إلى اللَّيلة كما تُضاف أيضًا الصَّبيحة الَّتي بعدها إلى اللَّيلة، وكلُّ متَّصل بشيءٍ فهو مضاف إليه، سواء كان فيه(19) أو بعده، وإن(20) كانت العادة في نسبة الصَّبيحة إلى اللَّيلة الَّتي قبلها لتقديم(21) اللَّيل على النَّهار، فإنَّ نسبة الشَّيء إلى ما بعده جائزٌ بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}[النازعات:46]فنسب الضُّحى إلى ما بعده(22)، ويبيِّن ذلك رواية من روى عن أبي سعيدٍ (فَخَرجنَا صَبِيحَةَ عِشرِينَ) فلا إشكال في هذا بعد بيان أبي سعيدٍ أنَّها صبيحة عشرين / وبعد قول من روى: ((فِي لَيلَةِ إِحدَى وَعِشرينَ)). وهي(23) اللَّيلة الَّتي يخرج فيها من الاعتكاف، وسيأتي حكم خروج المعتكف في بابه إن شاء الله. [خ¦2040]
          وقوله: (وَكَانَ المَسجِدُ عَلَى(24) عَرِيشٍ) قال صاحب «العين»: العريش شبه الهودج، وعريش البيت سقفه، وقال الدَّاوديُّ: كان الجريد قد بُسط فوق الجذوع بلا طين، فكان المطر يسقط داخل المسجد، وكان(25) صلعم قال لبني النَّجَّار: ((ثَامِنونِي بِحَائِطِكُم هَذا. فقالوا: لا نطلبُ ثمنَه إلَّا إلى اللهِ. فأخرجَ قبورَ المشركينَ، وقطعَ النَّخلَ الَّتي كانَت فيهِ، فجعلَ مِنها سواريَ وجذوعًا وألقَى الجريدَ عليها، فقيل له بعد ذلك: يا رسولَ اللهِ، ألا تبنيهِ؟ قال: بَل عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى)).


[1] في (م): ((من)).
[2] قوله: ((الاعتكاف)) ليس في (م).
[3] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[4] قوله: ((معي)) ليس في (م).
[5] في (م): ((رأيت)).
[6] قوله: ((وَقَدْ رَأَيْتُ أنِي أَسْجُدُ...... في كُلِّ وِتْرٍ)) ليس في (م).
[7] في (م): ((مسجد)).
[8] في (م): ((في مسجد)).
[9] في (م): ((أو المدينة أو بيت)).
[10] في (م): ((المقصد)).
[11] في (ز) و(ص): ((الجماعة)) والمثبت من (م).
[12] في (ز) و(ص): ((يوم)) والمثبت من (م).
[13] قوله: ((جائز)) ليس في (ص).
[14] في (م): ((وأحمد وإسحاق ومالك)).
[15] في (ز) و(ص): ((إلى)) والمثبت من (م).
[16] زاد في (م): ((وهذا أصح الأقوال)) ولعله ضرب عليها.
[17] زاد في (م): ((قال)).
[18] في (م): ((بمعارض))، وفي (ص): ((معارض)).
[19] في (م): ((قبله)).
[20] في (م): ((ولئن)).
[21] في (م): ((التي فيها لتقدم)).
[22] في (ز) و(ص): ((إلى ما قبله)) ووضع خطًا فوق (قبله) وكتب في الحاشية: ((بعده)) وكذلك في (ص).
[23] في (م): ((ومن)).
[24] في (ز) و(ص): ((من)) والمثبت من (م).
[25] زاد في (م): ((النبي)).