شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا نزل العدو على حكم رجل

          ░168▒ باب: إِذَا نَزَلَ الَعُدُّو على حُكْمِ رَجُلٍ
          فيه: أَبُو سَعِيدٍ: (لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، بَعَثَ النَّبيُّ صلعم وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ على حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ النَّبيُّ صلعم: قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إلى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا على حُكْمِكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ). [خ¦3043]
          قال المُهَلَّب: فيه جواز التَّحكيم في أمر الحرب وغيره، وذلك ردٌّ على الخوارج الذين أنكروا التَّحكيم على عليٍّ. وفيه: أنَّ التَّحاكم في الدُّنيا إلى رجلٍ معلوم الصَّلاح والخير لازمٌ للمتحاكمين. فكيف بيننا وبين عدوِّنا في الدِّين؟ وأنَّ المال أخفُّ مؤنةً من النَّفس والأهل.
          وفيه: أمر السُّلطان والحاكم بإكرام السَّيِّد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل في مجلس السُّلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام النَّاس كافَّةً القيام إلى سيِّدهم.
          وقد اعترض هذا من قال: إنَّما أمر الرَّسول صلعم الأنصار بهذا خاصَّةً؛ لأنَّه سيِّد الأنصار، وهذا لا دليل عليه، بل هو سيِّد من حضر من أنصاريٍّ ومهاجريٍّ؛ لأنَّه قال فيه قولًا مجملًا لم يخصَّ فيه أحدًا ممَّن بين يديه من غيره، وسيأتي في كتاب الاستئذان تأويل حديث أبي سعيدٍ مع الحديث العارض إن شاء الله. [خ¦6262]
          قال الطَّبريُّ: فيه البيان عن أنَّ لإمام المسلمين إذا حاصر العدوَّ، فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجلٍ من المسلمين، مرضيَّةٍ أمانته على الإسلام وأهله، موثوقٍ بعقله ودينه / أن يجيبهم إلى ذلك، وإن كان الرَّجل غائبًا عن الجيش؛ لأنَّ سعدًا لم يشهد حصار رسول الله لبني قريظة، حين سألوا النَّبيَّ صلعم أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يُعالِج كلمه الذي كُلِمه بالخندق، فأرسل فيه النَّبيُّ صلعم حتَّى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضى، وإن خالف ذلك ردَّ حكمه.
          وقيل للنَّازلين على حكمه: إن رضيتم حكم غيره يحكم فيكم بحكمٍ يجوز في ديننا أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذي لا يجوز لأحد الفريقين الرُّجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم، وسبي ذراريِّهم ونسائهم، وقسم أموالهم، إن كان ذلك هو النَّظر للمسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، أو المنِّ عليهم، ووضع الخراج على رؤوسهم فجائزٌ بعد أن يكون نظرًا للمسلمين.
          وأمَّا الحكم الذي يردُّ ولا يمضى: فهو أن يحكم أنَّهم يُقرُّون(1) في أرض المسلمين كفَّارًا بغير خراجٍ يؤدُّونه إلى الإمام ولا جزية؛ لأنَّه غير جائزٍ أن يقيم كافرٌ في أرض الإسلام سنةً بغير جزيةٍ يؤدِّيها عن رقبته، وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنَّه لا ينبغي أن يجيبهم إلى ذلك لصحَّة الخبر الذي رواه سفيان عن علقمة بن مرثدٍ، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: ((كان صلعم إذا بعث أميرًا على جيشٍ وصَّاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر _إلى قوله_ وإن قاتلت أهل حصنٍ فأرادوا أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيِّه، فلا تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة رسوله، واجعل لهم ذمَّتك وذمَّة أصحابك؛ خيرٌ أن تخفر ذمَّة الله وذمَّة رسوله صلعم، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنَّك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا)).
          فإن قيل: كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجلٍ مرضيٍّ دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله صلعم، ثمَّ إنَّه يقول: لا يجوز للإمام أن يجيبهم إذا سألوه أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله صلعم، وهذان قولان يفسد أحدهما صاحبه.
          قيل له: ليس كما توهَّمت، فأمَّا كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النُّزول على حكم الله وحكم رسوله صلعم الذي هو الحقُّ عنده، فإنَّ ذلك لا يعلمه إلَّا علَّام الغيوب، وإنَّما يحكمون إذا كانوا أهل دينٍ وأمانةٍ بأصلح ما حضرهم في الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه صلعم.
          وإن هم نزلوا(2) على حكم رجلٍ من المسلمين ثمَّ بدا لهم في الرِّضا بحكمه قبل أن يحكم بينهم، وسألوا الإمام غيره ممَّن هو رضا، فللإمام أن يجيبهم إلى ذلك، وذلك أنَّ رسول الله صلعم ذكر عنه أنَّ بني قريظة كانوا نزلوا على حكمه، ثمَّ سألوه أن يجعل الحكم لسعد بن معاذٍ، فأجابهم إلى ذلك، فأمَّا إذا حكم بينهم الذي نزلوا على حكمه ثمَّ بدا لهم في حكمه لم يكن للإمام ردُّ حكمه(3) إذا لم يخالف حكمه ما يجوز في ديننا.
          وفيه أنَّ الإمام إذا ظهر من قومٍ من أهل الحرب الذي بينه وبينهم مواعدةٌ وهدنةٌ على خيانةٍ وغدرٍ أن ينبذ إليهم على سواءٍ وأن يحاربهم، وذلك أنَّ قريظة كانوا أهل مواعدةٍ للنَّبيِّ صلعم قبل الخندق، فلمَّا كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله صلعم وراسلوهم: إنَّا معكم، وأثبتوا مكانكم. فأحلَّ الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواءٍ، وفيهم نزلت هذه الآية: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً}الآية[الأنفال:58]. فحاصرهم رسول الله صلعم والمسلمون معه، حتَّى نزلوا على حكم سعدٍ.
          قال المُهَلَّب: وفيه أنَّ الإنسان قد يوافق برأيه ما في حكم الله ولا يُعلَم ذلك إلَّا على لسان نبيٍّ كما قال النَّبيُّ صلعم لسعدٍ.


[1] في (ص): ((يقروا)) والمثبت هو الجادة.
[2] في (ص) والمطبوع: ((حكموا)) والمثبت من التوضيح.
[3] قوله: ((ثم بدا لهم في حكمه لم يكن للإمام رد حكمه)) ليس في (ص) والمطبوع وأثبت من التوضيح.