شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكذب في الحرب

          ░158▒ باب: الكَذِبِ فِي الحَربِ
          فيه: جَابِرٌ قَالَ النَّبيُّ ◙: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا _يَعنِي مُحمَّدًا_ قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ أَيْضًا: وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ(1)، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إلى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ). [خ¦3031]
          قال المؤلِّف: روى ابن شهابٍ عن حميد بن عبد الرَّحمن، عن أمِّ كلثوم قالت: ما سمعت النَّبيَّ ◙ رخَّص في الكذب إلَّا في ثلاثٍ، كان ◙ يقول: ((لا أعدهنَّ كذبًا: الرَّجل يُصلِح بين النَّاس، والرَّجل يحدِّث زوجته، والرَّجل يقول في الحرب)).
          فسألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال لي: إنَّ الكذب الذي أباحه ◙ في الحرب هي المعاريض التي لا يُفهَم منها التَّصريح بالتَّأمين؛ لأنَّ من السُّنَّة المجتمع عليها أنَّ من أمَّن كافرًا فقد حقن دمه، ولهذا قال عُمَر بن الخطَّاب: يتبع أحدكم العلج حتَّى إذا اشتدَّ في الجبل قال له: مَتَرْسٍ(2)، ثمَّ قتله، والله لا أوتَى بأحدٍ فعل ذلك إلَّا قتلته.
          وقال المُهَلَّب: موضع الكذب من هذا الحديث قول محمَّد بن مسلمة: (قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنا الصَّدَّقَةَ)؛ لأنَّ هذا الكلام يحتمل أن يتأوَّل منه أنَّ اتِّباعهم له إنَّما هو للدُّنيا على نيَّة كعب بن الأشرف، وليس هو بكذبٍ محضٍ بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنَّه ورى له عن الحقِّ الذي اتَّبعوه له في الآخرة، وذكر العَناء الذي يصيبهم في الدُّنيا والنَّصب، أمَّا الكذب الحقيقيُّ فهو الإخبار عن الشَّيء على خلاف ما هو به، وليس في قول ابن مسلمة إخبار عن الشَّيء على خلاف ما هو به، وإنَّما هو تحريفٌ لظاهر اللَّفظ، وهو موافقٌ لباطن المعنى.
          ولا يجوز الكذب الحقيقيُّ في شيءٍ من الدِّين أصلًا، ومحالٌ أن يأمر بالكذب وهو ◙ يقول: ((من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار))، وإنَّما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النَّبيِّ ◙، وسمع منه لكان دليلًا على النِّفاق، ولكن لمَّا أذن له في القول لم يكن معدودًا عليه أنَّه نفاق، وسيأتي في كتاب الصُّلح زيادةٌ في هذا المعنى في باب ليس الكاذب الذي يصلح بين النَّاس، إن شاء الله تعالى. [خ¦2692]


[1] قوله: ((لتملنه)) ليس في (ص) والمثبت من الصحيح.
[2] قال في اللسان: ((مترس أي لا تخف)).