شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ركوب البحر

          ░75▒ باب: رُكُوبِ الْبَحْرِ.
          فيه: أَنَسٌ: (حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَامَ يَوْمًا في بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ على الأسِرَّةِ) الحديث. [خ¦2894] [خ¦2895]
          فيه جواز ركوب البحر للجهاد، وإذا جاز ركوبه للجهاد فهو للحجِّ أجوز، وهذا الحديث يردُّ أحد قولي الشَّافعيِّ أنَّه من لم يكن له طريقٌ إلى الحجِّ إلَّا على البحر سقط عنه فرض الحجِّ، وقال مالكٌ وأبو حنيفة: يلزمه الحجُّ على ما يقتضيه دليل هذا الحديث، إلَّا أنَّ مالكًا يكره للمرأة الحجَّ في البحر وهو للجهاد أكره، وإنَّما كره ذلك؛ لأنَّ المرأة لا تكاد تستتر عن الرِّجال ولا يستترون عنها، ونظرها إلى عورات الرِّجال ونظرهم إليها حرامٌ، فلم ير لها استباحة فضيلةٍ ولا أداء فريضةٍ بمواقعة محرَّمٍ.
          وذكر مالكٌ أنَّ عُمَر بن الخطَّاب كان يمنع النَّاس من ركوب البحر فلم يركبه أحدٌ طول حياته، فلمَّا مات استأذن معاوية عثمان بن عفَّان في ركوبه فأذن له، فلم يزل يركب حتَّى كان عُمَر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثمَّ ركب بعده إلى الآن.
          ولا حجَّة لم منع ركوبه؛ لأنَّ السُّنَّة قد أباحت ركوبه في الجهاد للرِّجال والنِّساء في حديث أنسٍ وغيره وهي الحجَّة / فيها الأسوة، وقد ذكر أبو عبيدٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن ركوب البحر في وقت ارتجاجه وصعوبته قال: حدَّثناه عَبَّاد بن عَبَّاد، عن أبي عِمْرَان الجونيِّ، عن زهير بن عبد الله يرفعه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((من ركب البحر إذا التجَّ _أو قال: ارتجَّ_ فقد برئت منه الذِمَّة _أو قال: فلا يلومنَّ إلَّا نفسه_)) قال أبو عبيدٍ: وأكبر ظنِّي أنَّه قال: ((التجَّ)) باللَّام.
          فدلَّ هذا الحديث أنَّ ركوبه مباحٌ في غير وقت ارتجاجه وصعوبته في كلِّ شيءٍ في التِّجارة وغيرها، وسيأتي في كتاب البيوع في باب التِّجارة في البحر، زيادة في هذا المعنى إن شاء الله. [خ¦2063]
          ولم يفسِّر أبو عبيدٍ قوله: ((برئت منه الذِّمَّة)) ومعناه إن شاء الله فقد برئت منه ذمَّة الحفظ؛ لأنَّه ألقى بيده إلى التَّهلكة وغرَّر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمَّة الإسلام؛ لأنَّه لا يبرأ أحدٌ من الإسلام إلَّا بالكفر.