شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله}

          ░12▒ باب قَوْلِ اللهِ تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]
          فيه: أَنَسٌ: (غَابَ عَمِّي عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ أَشْهَدَنِي اللهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ _يعني أَصْحَابَهُ_ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ(1) _يعني الْمُشْرِكِينَ_ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً(2) بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، وَكُنَّا نُرَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وفي أَشْبَاهِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوا}الآية[الأحزاب:23]) الحديث. [خ¦2805] [خ¦2806]
          وفيه: زَيْدٌ: (نَسَخْتُ الصُّحُفَ في الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأحْزَابِ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الأنْصَارِيِّ الذي جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم شَهَادَتَهُ بشَهَادَة رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا}[الأحزاب:23]). [خ¦2807]
          قال المُهَلَّب: وفيه الأخذ بالشِّدَّة واستهلاك الإنسان نفسه في طاعة الله.
          وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النَّفس، ولا يعارض قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195]؛ لأنَّ هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء في المشركين وأخذوا في الشِّدَّة / بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنَّة كما قال تعالى. ألا ترى قوله: (فَما استَطَعتُ مَا صَنَعَ) يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أغنى وأبلى في المشركين.
          وقوله: (إِنِّي أَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحُدٍ) يمكن أن يكون على الحقيقة، لأنَّ ريح الجنَّة يوجد من مسيرة خمسمائة عام، فيجوز أن يشمَّ رائحةً طيَّبةً تشهيه الجنَّة وتحبُّبها إليه، ويمكن أن يكون مجازًا، فيكون المعنى إنِّي لأعلم أنَّ الجنَّة في هذا الموضع الذي يقاتل فيه؛ لأنَّ الجنَّة في هذا الموضع تكتسب وتشترى.
          وأمَّا قوله: (فَفَقَدْتُ آيَةً مِن الأحْزَابِ، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ) فلم يرد أنَّ حفظها قد ذهب عن جميع النَّاس فلم تكن عندهم؛ لأنَّ زيد بن ثابتٍ قد حفظها. وروي أنَّ عمر قال: ((أشهد لسمعتها من رسول الله)) وروي أنَّ أبيَّ بن كعب قال مثل ذلك، وعن هلال بن أميَّة أيضًا، وإنَّما أمر أبو بكر عند جمع الصُّحف عُمَر بن الخطَّاب وزيدًا بأن يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين فيشهدان سماع ذلك من في النَّبيِّ ◙ ليكون ذلك أثبت وأشدَّ في الاستظهار وممَّا لا يتسرَّع أحدٌ إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضي أبو بكرٍ ابن الطَّيِّب، وقد ذكر في ذلك وجوهًا أخر، هذا أحسنها، سأذكرها في فضائل القرآن في باب: جمع القرآن، [خ¦4986] إن شاء الله.


[1] قوله: ((يعني أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع والصحيح.
[2] قوله: ((وثمانين ضربة)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع والصحيح.