شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل الطليعة

          ░40▒ باب: فَضْلِ الطَّلِيعَةِ.
          فيه: جَابِرٌ قَالَ الرَّسولُ: (مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأحْزَابِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ ◙: إِنَّ لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ: الزُّبَيْرُ). [خ¦2846]
          وترجم له باب: هل يبعث الطَّليعة وحده.
          قال المُهَلَّب: فيه أنَّ الطَّليعة يستحقُّ اسم النُّصرة؛ لأنَّ الرَّسول صلعم سمَّاه: حواريَّ، ومعنى هذه التَّسمية أنَّ عيسى ابن مريم لمَّا قال لقومه: {مَنْ أَنصَارِي إلى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ}[الصف:14]فلم يجبه غيرهم، فكذلك لمَّا قال الرَّسول: من يأتيني بخبر القوم مرَّتين لم يجبه غير الزُّبير، فشبَّهه بالحواريِّين أنصار عيسى، وسمَّاه باسمهم، وإذا صحَّ من هذا الحديث أنَّ الطَّليعة ناصرٌ، فأجره أجر المقاتل المدافع؛ قام منه الدَّليل على صحَّة قول مالكٍ أنَّ طليعة اللُّصوص يقتل مع اللُّصوص، وإن كان لم يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عُمَر بن الخطَّاب: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به.
          وفيه شجاعة الرَّئيس وتقدُّمه وفضله، وفيه الأدب من الإمام في النَّدب إلى القتال والمخاوف؛ لأنَّه كان للنَّبيِّ أن يقول لرجلٍ بعينه: قم فاءتني بخبر القوم، فلزم الرَّجل ذلك؛ لقوله تعالى: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم}[الأنفال:24]وزعم بعض المعتزلة أنَّ بعث النَّبيِّ صلعم الزُّبير طليعةً وحده يعارض قوله: ((الرَّاكب شيطانٌ)) ونهيه عن أن يسافر الرَّجل وحده.
          قال المُهَلَّب: وليس في ذلك تعارضٌ بحمد الله لاختلاف المعنى في الحديثين، وذلك أنَّ قوله ◙: / ((الرَّاكب شيطانٌ))، إنَّما جاء في المسافر وحده، لأنَّه لا يأنس بصاحبٍ ولا يقطع طريقه محدِّثٌ يهوِّن عليه مؤنة السَّفر، كالشَّيطان الذي لا يأنس بأحدٍ، ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار فتكة وتدبير شهوة، حضًّا منه ◙ على الصُّحبة، والمرافقة لقطع المسافة، وطيِّ بعيد الأرض بطيب الحكاية، وحسن المعاونة على المؤنة، وقصَّة الزُّبير بضدِّ هذا. بعثه طليعةً عينًا متجسِّسًا على قريشٍ ما يريدونه من حرب الرَّسول، فلو أمكن أن يتعرَّف ذلك منهم بغير طليعةٍ لكان أسلم وأخفَّ، ولكن أراد أن يبيِّن لنا جواز العذر في ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها في نفع المسلمين وحماية الدِّين، ومن خرج في مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشَّيطان أذنه ليصغي إلى خدعه، بل عليه من الله حافظٌ، وبعد ألَّا ترى تثبيت الله له حين نادى أبو سفيان في المشركين: ليعرف كلَّ إنسانٍ منكم جليسه. فقال الزُّبير لمن قرب منه: من أنت؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته(1)، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما، فالوحدة في هذا هي الحكمة البالغة، وفي المسافر هي العورة البيِّنة، ولكلٍّ وجهٌ من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعاني، وفي الباب الذي بعد هذا شيء من هذا المعنى.


[1] المشهور في هذه القصة أنها حدثت مع حذيفة ☺.