شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب النفقات

          ░░69▒▒ كِتَاب النَّفَقَاتِ
          فَضْلِ النَّفَقَةِ على الأهْلِ، وَقَوْلهُ ╡: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}[البقرة:219].
          وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَفْوُ: الْفَضْلُ.
          فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ على أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً). [خ¦5351]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قال: (قال اللهُ تعالى: أَنْفِقْ ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ). [خ¦5352]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قال: قال النَّبيُّ(1) صلعم: (السَّاعِي على الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ، أَوِ كالْقَائِمِ اللَّيْلَ، الصَّائِمِ النَّهَارَ). [خ¦5353]
          وفيه: سَعْدٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يَعُودُنِي، وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لي مَالٌ، أُوصي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَالثُّلُث؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أَيْدِيهِمْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ / فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلى فِي امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَرْفَعُكَ حَتَّى يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ). [خ¦5354]
          اختلف السلف في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}[البقرة:219]، فروي عن أكثر السلف أنَّ المراد بذلك صدقة التطوُّع، روي ذلك عن القاسم وسالمٍ قالا: العفو: فضل المال ما تصدَّق به عن ظهر غنًى. وقال الحسن: لا تنفق حتَّى يجهد مالك فتبقى تسأل الناس، وفيها قولٌ ثالثٌ عن مجاهدٍ قال: العفو الصدقة المفروضة. قال إسماعيل بن إسحاق: وما ذكره مجاهدٌ غير ممتنعٍ؛ لأنَّ الذي(2) يؤخذ في الزكاة قليلٌ من كثيرٍ، ولكن ظاهر التفسير ومقصد الكلام يدلُّ أنَّه في غير الزكاة، والله أعلم.
          وقال الزجَّاج: أُمر الناس أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه كلَّ يومٍ ما يكفيه ويتصدَّق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما ينفقون في عامهم وينفقون باقيه، روي هذا في التفسير.
          ذكر البخاريُّ أنَّ الآية عامَّةٌ في النفقة على الأهل وغيرهم؛ لأنَّ الرجل لا تلزمه النفقة على أهله إلَّا بعد ما يعيش به نفسه، وكان ذلك عن فضل قوته، وقد جاء في الحديث عن النبيِّ صلعم في هذه الأحاديث أنَّ نفقة الرجل على أهله صدقةٌ، فلذلك ترجم بالآية في النفقة على الأهل.
          قال الطبريُّ: إن قال قائلٌ: ما وجه حديث أبي مسعودٍ وحديث سعدٍ وما تأويلهما، وكيف يكون إطعام الرجل أهله الطعام صدقةً وذلك فرضٌ عليه؟
          فالجواب: أنَّ الله ╡ جعل من الصدقة فرضًا وتطوعًا، ومعلومٌ أنَّ أداء الفرض أفضل من التطوُّع، فإذا كان عند الرجل قدر قوته ولا فضل فيه عن قوت نفسه، وبه إليه حاجةٌ، وهو خائفٌ بإيثاره غيره به هلاك نفسه، كائنًا(3) من كان غيره الذي حاجته إليه مثل حاجته، والدًا كان أو ولدًا أو زوجةً أو خادمًا، فالواجب عليه أن يحيي به نفسه، وإن كان فيه فضلٌ كان عليه(4) صرف ذلك الفضل حينئذٍ إلى غيره ممَّن فرض الله تعالى نفقته عليه، فإن كان فيه فضلٌ عمَّا يحيي به نفسه ونفوسهم، وحضره من(5) لم يوجب الله تعالى عليه نفقته، وهو مخوفٌ عليه الهلاك إن لم يصرف إليه ذلك الفضل كان له صرف ذلك إليه بثمنٍ أو بقيمةٍ، وإن كان في سعةٍ وكفايةٍ ولم يخف على نفسه ولا على أحدٍ ممَّن تلزمه نفقته، فالواجب عليه أن يبدأ بحقِّ من أوجب الله سبحانه حقَّه في ماله، ثمَّ الأمر إليه في الفضل من ماله، إن شاء تطوَّع بالصدقة به، وإن شاء ادَّخره(6)، وإذا كان المنفق على أهله إنَّما يؤدِّي فرضًا لله واجبًا له فيه جزيل الأجر فذلك إن شاء الله معنى قوله صلعم: (وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ نَفَقَةً فَهيَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلى فِي امْرَأَتِكَ)؛ لأنَّه بفعله ذلك يؤدِّي فرضًا لله عليه هو أفضل من صدقة التطوُّع التي يتصدَّق بها على غريبٍ منه لا حقَّ له في ماله. /


[1] في (ص): ((رسول الله)).
[2] قوله: ((قال إسماعيل بن إسحاق: وما ذكره مجاهد غير ممتنع؛ لأن الذي)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((كائن)).
[4] قوله: ((كان عليه)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((ممن)).
[6] في (ص): ((أخره)).