شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ░░1▒▒ بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحِي إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلعم، وَقَوْل اللهِ ╡: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}(1)[النساء:163]
          فيه: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ☺، قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ(2) إلى دُنْيَا يُصِيْبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ ينكحها(3) فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ). [خ¦1]
          قال المؤلف: قال لي أبو القاسم الْمُهَلَّب بن أبي صُفرة ☼: معنى هذه الآية أنَّ الله تعالى أوحَى إلى محمد صلعم كما أوحَى إلى سائر الأنبياء ╫ قبلَه وَحْيَ رسَالةٍ لا وَحْيَ إلهام(4) لأنَّ الوحي ينقسم على وجوه، قال: وإنَّما قدَّم البخاريُّ ☼ حديث: (الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) في أوَّل كتابِه ليُعلِم أنَّه قصد في تأليفِه(5) وجه الله ╡، ففائدة هذا المعنى أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابَه أن يقصد به(6) وجه الله تعالى كما قصدَه البخاريُّ في تأليفِه، وجعَلَ هذا الحديث في أوَّل كتابِه عوضًا من الخطبة التي يبدأ بها المؤلفون، ولقد أحسن العوض من عوَّض من كلامِه كلامَ رسول الله صلعم الذي ما ينطق عن الهوى.
          وقال جماعة من العلماء: إنَّ هذا الحديث ثُلُث الإسلام(7) وبه خطب النبيُّ صلعم حين وصل إلى دار الهجرة وشَهَرَ الإسلام، وقال أبو عبد الله بن الفَخَّار: إنَّما ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأنَّه متعلِّق بالآية التي في الترجمة، والمعنى الجامع بينهما أنَّ الله ╡ أوحى إلى محمد صلعم وإلى الأنبياء قبلَه ‰ أنَّ الأعمال بالنيات، والحجَّة لذلك قول الله ╡: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}[الشورى:13]وقال أبو العالية: في هذه الآية وصَّاهم بالإخلاص لله ╡ وعبادته لا شريك له، وقال مجاهد في قوله تعالى: {ومَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قال: أوصاك به وأنبياءَه(8) كلَّهم دينًا واحدًا، وقال أبو الزِّناد بنُ سِرَاج ☼: إنما خص المرأة(9) بالذكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث لأن العرب في الجاهلية كانت لا تزوج(10) المولى العربية ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحهم وصار كل واحد من المسلمين كُفْئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها حتى سُمِّي بعضُهم مُهَاجِرَ أُمِّ قيس.
          وفيه: عَائِشَة ♦ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلعم: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي في مِثْل صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ _وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ_ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ(11) مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ في الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. [خ¦2]
          وفيه: عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيًا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ(12)، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ _وَهُوَ التَّعَبُّدُ(13)_ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ(14) وَيَتَزَوَّدُ(15) لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلتُ(16): مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ(17): مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قال: فَأَخَذَنِي الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:1-4]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلعم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ على خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ(18) حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ _وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ_: (لَقَدْ خَشِيتُ على نَفْسِي)، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللهِ ما(19) يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الْحَقِّ.
          فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ / امْرَأً تَنَصَّرَ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ(20)، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم بخَبَرِ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ على مُوسَى صلعم يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ(21) إِلا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ).
          وقَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: (قَالَ(22): بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الذي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ على كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي(23)، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:1-5]فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ) وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: (بَوَادِرُهُ). [خ¦3-4]
          وفيه: ابْن عَبَّاسٍ في قَوْلِ الله ╡ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ [خ¦5]
          فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُحَرِّكُهُمَا، _فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ_ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ(24) لَكَ فِي صَدْرِكَ(25) وَتَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:16-17]ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلعم كَمَا قَرَأَ).
          قال الْمُهَلَّب: قوله (فِي مِثْلِ صَلْصَلَة الجَرَس) يعني قوة صوت الملك بالوحي ليشغلَه عن أمور الدنيا ويفَرِّغَ حواسه للصوت الشديد، فكان ◙ يعي عنه لأنه لم يبق في سمعه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه، قال المؤلف: وعلى مثل هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحي من الله ╡، ذكر البخاري عن ابن مسعود قال: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات)) وقال أبو هريرة في حديثه: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله كأنه سلسلةٌ على صَفْوان يُنْفِذُهُمْ ذلك، قال(26): فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقَّ)).
          وقال أبو الزِّنَاد: إنما ذكر ◙ أنه يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس ويتمثل له رجلًا ولم يذكر الرؤيا وقد أعلمَنا ◙ أن رؤياه وحي؛ وذلك أنه أخبرهم بما ينفرد به دون الناس لأن الرؤيا الصالحة قد يَشْرَكُه غيره فيها، وأما قول عائشة: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الوحي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيًا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) قال الْمُهَلَّب: هي تباشير النبوة وكيفية بدئها لأنه لم يقع فيها ضِغْث فيتساوى مع الناس في ذلك بل خُصَّ بصدقها كلها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ: {إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[الصافات:102]فتمم الله تعالى عليه النبوة بأن أرسل إليه الْمَلك في اليقظة وكشف له عن الحقيقة، فكانت الأولى في النوم وصحة ما يوحى إليه فيه توشيحًا للنبوة وابتدائها حتى أكملها الله له في اليقظة تفضلًا من الله تعالى وموهبة خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاته والله ذو الفضل العظيم.
          قال غيره: وتزوُّدُه ◙ في تحنثه يُردُّ قول الصوفية أن من أخلص لله أنزل الله عليه(27) طعامًا، والنبي صلعم كان أولى بهذه المنزلة لأنه أفضل البشر وكان يتزود.
          وقال(28) المُهَلَّب: قوله (فَغَطَّني) فيه من الفقه أن الإنسان يُذَكَّر ويُنَبَّه إلى فعل الخير وإن(29) كان عليه فيه مشقة، وقال أبو الزِّناد: قوله(30) (فَغَطَّني) ثلاث مرات فيه دليل على(31) أن المستحبَّ في مبالغةِ تكريرِ التنبيهِ والحضِّ على التعليم ثلاثُ مرات، وقد روي عنه ◙: ((أنه كان إذا قال شيئًا أعاده ثلاثًا للإفهام)) وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث أن يُؤْمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات.
          وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}[العلق:1]يدلُّ على(32) أنها أوَّل ما نزل من القرآن، وقال أبو الحسن بن القَصَّار: في هذا ردٌّ على الشافعي(33) / في قوله: إنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} آية من كل سورة، وهذه أول سورة نزلت عليه لم يُذكر فيها: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
          قال غيره: رجوعُ النبي(34) صلعم فزعًا فقال (زَمِّلُوْني) ولم يخبر بشيء حتى ذهب عنه الرَّوْعُ فيهِ دليلٌ أنه لا يحب أن يُسأل الفازعُ عن شيء من أمره ما دام في حالة(35) فزعه، وكذلك قال مالك وغيره: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره في حال فزعه، وقوله ◙: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) يدل أنه من نزلت به ملمة أنّ له أن يشارك(36) فيها من يثق بنصحه ورأيه.
          وقولها: (كَلَّا وَاللهِ ما يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) إلى آخر الحديثِ إنما هو قياس منها على العادات، والأكثرُ في الناس في حُسْنِ عاقبةٍ مَنْ فعَلَ الخير، وفيه جواز تزكية الرجل في وجهه بما فيه الخير، وليس بمعارض لقوله ◙: ((احُثُوا التُرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ)) وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل وبما ليس في الممدوح.
          وقول يونس ومَعْمَر (بَوَادِرُهُ) يعني ترجف بوادُرُه مكانَ روايةِ من روى (يَرْجُفُ فُؤَادُه) وسيأتي تفسير ذلك في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى.
          ومعنى أمرِهِ ╡ نبيَّه ألا يحرك بالقرآن لسانه ليعجل به وَعِدَتِهِ له أن يجمعه في صدره لكي يتدبرَه ويتفهمه وتبدوَ له عجائب القرآن وحكمته وتقعَ(37) في قلبه مواعظه فيتذكرَ بذلك، ولتتأسى به أمته في تلاوته فينالوا بركته ولا يُحرَموا حكمته، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى فقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]وفيه أنَّ القرآن لا يحفظه أحد إلا بعون الله له على حفظه وتيسيره، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}(38)[القمر:17].
          وفيه: ابْن عَبَّاسٍ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلعم(39) أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ). [خ¦6]
          قال المُهَلَّب: معنى ذلك أنه امتثل ◙ قولَ الله ╡ وأَمْرَه في تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول الذي كان تعالى أمر به عباده، فقال ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}[المجادلة:12]ثم عفا عنهم لإشفاقهم منه، فامتثل ذلك النبي ◙ عند مناجاة(40) الملك وتردادِه عليه في رمضان، فإن قيل: هذا أمر منسوخ قيل: قد فعل النبي صلعم في خاصته أشياء مَنَعَ منها أمته كالوصال في الصيام، فإنه ◙ واصل ونهى عنه غيره، وقال: ((أَيُّكُم مِثْلِي؟)) وكان يلتزم من طاعته(41) ما لا يقدر عليه غيره، وكان يصلي حتى تَتفطَّر قدماه ويقول: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُوْرًا)) وما كانت مدارسته للقرآن إلا ليزيده(42) رغبة في الآخرة وتزهدًا(43) في الدنيا.
          وفيه(44) أن الجليس الصالح ينتفع بمجالسته، فإن قيل: فما معنى مدارسة جبريل للنبي صلعم القرآنَ وقد ضمن الله تعالى لنبيه ◙ ألا ينساه بقوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى}[الأعلى:6]فالجواب: أن الله تعالى إنما ضمن له ألَّا ينساه بأن يُقرئه ╡ إياه في المستأنف لأنَّ السين في {سَنُقْرِؤُكَ} دخلت للاستئناف، فأنجز له ╡ ذلك بإقراء(45) جبريل ومدارسته له القرآن في كل رمضان، وخص رمضان بذلك(46) لأن الله تعالى أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا، ولتتأسى بذلك أمته في كل أشهر(47) رمضان فيكثروا فيه من قراءة القرآن، فيجتمع لهم فضل الصيام والتلاوة والقراءة(48) والقيام(49).
          وفيه: ابْن عَبَّاسٍ: (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ في رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا(50) بِالشَّامِ في الْمُدَّةِ التي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ(51) فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ قُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَليه، ثُمَّ قَالَ:
          أَوَّلُ(52) مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ منكم قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ(53): بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ / فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ في مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
          فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ(54) قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ(55) الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ تَأَسَّى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ على النَّاسِ وَيَكْذِبَ على اللهِ تعالى، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ(56) كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْه، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم الذي بَعَثَ بِهِ مع(57) دِحْيَة(58) الكَلْبِي(59) إلى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:
          ╖، مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ رسولِ الله إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّيْن، وَ{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عِمْرَان:64].
          قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَر، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَيَّ الإسْلامَ.
          وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ أُسْقُفًّا(60) على نَصَارَى(61) الشَّاْمِ يُحَدِّثُ(62) أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ في النُّجُومِ أَنَّ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إلى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا(63) مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَا هُمْ على أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا مُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ(64)، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ(65) هَذِهِ الأمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ نَظِيرَهُ في الْعِلْمِ، وَسَارَ(66) هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ على خُرُوجِ الرَّسُولِ(67) وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ في الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا(68) هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ(69) مِنَ الإيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ على دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ(70) / وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ(71) ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ). [خ¦7]
          قال المُهَلَّب: وقوله (في الْمُدَّةِ الَّتِي مَادَّ فِيهَا رَسُولُ اللهِ(72) أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ) فإنَّ أهل السِّيَر ذكروا أن الرسول صلعم صالح أهل مكة سنة ستٍّ عامَ الحديبية عشرَ سنين، ثم إن أهل مكة نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين الرسول صلعم بقتالهم خزاعةَ حلفاءَ النبي صلعم، ثم سألوا أبا سفيان أن يجدد لهم العهد، فامتنع النبي(73) صلعم من ذلك، فأنزل الله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[التوبة:13]بعد أن قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ(74)}[التوبة:12]فأوجب قتالهم حين نكثوا أيمانهم، وغير جائز أن يترك النبي صلعم ما أُمر به من قتالهم بعد قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة:14-15]فأُمِرَ بقتالهم وأُخبِرَ بما يكون من النصر والتشفي خبرًا لا يجوز أن ينقلب.
          وفي سؤال هرقل (أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُل؟) دليل أن أقارب الإنسان أولى بالسؤال عنه من غيرهم من أجل أنه لا يَنسُب إلى قريبه ما يلحقه به عار في نسبه عند العداوة كما يفعل غير القريب، وقوله: (قَرِّبُوا أَصْحَابَه فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِه) خشي أن يستحي منه أصحابه عند نظرهم إليه إن كذب في قوله، (وَقَالَ لَهمْ: إِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، وَإِنْ صَدَقَنِي(75) فَصَدِّقُوْهُ) وقوله: (فَوَاللهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَليه) يدل أن الكذب مهجور في كل أمة ومعيبٌ في كل مِلَّة، وفيه: أن العدو لا يؤمن عليه الكذب على عدوه، وكذلك لا يجوز شهادته(76) على عدوه، وفيه أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم(77) الأنساب لأن من شرف نسبه كان أبعدَ له من الانتحال لغير الحقائق.
          وقوله: (فِي نَسَبِ قَوْمِهَا) يعني أفضلَه وأشرفه، وكذلك الإمام الذي هو خليفة الرسول ينبغي أن يكون من أشرف قومه، وفيه: أن الإمام الكاشفَ وجهَهُ في الإمامةِ وكل من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأسَّ بأحد تقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للمظِنَّة به وأبرأ لساحته، وفيه أن من أخبر بحديث وهو معروف بالصدق(78) أنه يُصَدَّق فيه، وإن(79) كان معروفًا بالكذب أنه لا يُقبل حديثه.
          وقوله: (أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ) فإن أشراف الناس هم الذين يأنَفون من الخصال التي شرُف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى أن يكونوا تابعين في أحوال الدنيا فلذلك قال: إن كان يعاديه أشراف الناس فهي دلالة على نبوَّته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن اتِّباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء في نفوسهم فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعهم من ذلك طلبُ رئاسة ولا أَنَفَةُ شرف، وزيادتهم دليل على صحة النبوة لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد ويتبين لهم فيدخل فيه كل يوم طائفة، وأما سؤاله عن ارتدادهم فإن(80) كل من لم يدخل على بصيرة في شيء وعلى يقين منه فقريب رجوعه واضطرابه، ومن دخل على بصيرة وصحة يقين فيمتنع رجوعه.
          وأما سؤاله عن الغدر فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يَسأل عن أي طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب عليه ولا فيما يأثم فيه، وقوله: (وَنَحْنُ مِنْهُ في مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا يَكونُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَمْ تُمكِنِّي كَلِمَةٌ أَنْتَقِصُهُ فِيهَا غَير مَا(81)...) فيه من الفقه أن من شك في كمال أحوال النبي ◙ فهو مرتاب غير مؤمن به(82)، وسؤاله عن حربهم وقوله: (وَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُم(83) العَاقِبَة) فتبتلى ليعظم لها الأجر ولمن اتبعها ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين ولقذف في قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة(84) بالغة ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
          وأما قوله لترجمانه: (قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ...) إلى آخر سؤاله فقال في كل(85) فصل منها: (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي مِثْلِ هَذَا) فإنما أخبر بذلك عن الكتب القديمة، وأنَّ ذلك كله نعت للنبي صلعم عندهم مكتوبًا(86) في التوراة والإنجيل، وكذلك قوله: قد كنت أعلم أنه خارج، إنما علم ذلك من التوراة والإنجيل.
          وقول / هرقل: (لَو كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقْيَه) يعني(87) دون خلع من ملكه ولا اعتراض عليه في شيء، وهذا التَّجشُّم هي الهجرة، وكانت فرضًا على كل مسلم قبل فتح مكة، فإن قيل: فإن(88) النجاشي لم يهاجر قبل فتح مكة وهو مؤمن فكيف سقط عنه فرض الهجرة؟ قيل له: هو في أهل مملكته أَغْنَى عن الله ╡ وعن رسوله صلعم وعن جماعة المسلمين منه لو هاجر بنفسه فردًا لأن أول غَنَائه حَبْسُهُ الحبشةَ كلهم عن مقاتلة النبي صلعم والمسلمين مع طوائف الكفار، مع أنه كان ملجأ لمن أوذي من أصحاب النبي صلعم ورِدْءًا لجماعة المسلمين، وحكم الرِّدْء في جميع أحوال الإسلام حكم المقاتِل، وكذلك رِدْءُ(89) اللصوص والمحاربين(90) عند مالك والكوفيين(91) يُقتل بقتلهم ويجب عليه ما يجب عليهم وإن كانوا لم يحضروا الفعل، ومثله تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد ♥ عن بدر، وضرَب لهم رسول الله صلعم بسهامهم من غنيمة بدر، وقالوا: وأَجْرُنا يا رسول الله؟ قال: وأجركم.
          وقوله: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ) هذا التجنيس في غاية(92) البلاغة وهو من بديع الكلام، ومثله في كتاب الله تعالى: {أَسْلَمْتُ(93) مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل:44]وقولُه: (يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ) أي لإيمانك بعيسى ◙ وإيمانك بي بعده، ودعاية الإسلام هي توحيد الله ╡ والإيمان برسوله صلعم، ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإيمان وأعلن بالإسلام وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا نقنع بالاعتقاد للإسلام دون الجهر به لقوله صلعم: ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله)) وقد أرخص الله ╡ لمن خاف وأُكره على الكفر أن يضمر الإيمان لقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106]ولم يَبلغنا أن هرقل أُكرِهَ على شيء من ذلك فيقوم له عذر وأمره إلى الله ╡، وأما بعثه صلعم إلى هرقل بكتاب فيه: ╖ وآيةٌ من القرآن وقد قال ◙: ((لا تسافر بالقرآن إلى أرض العدو)) وقال العلماء: لا يُمكَّن المشركون من الدراهم التي فيها ذكر الله ╡، وإنما فعل ذلك _والله أعلم_ لأنه(94) في أول الإسلام ولم يكن بد من أن يَدْعُوَ الناس كافة(95) إلى دين الله ╡ وتبليغِهِم توحيدَه كما أمره الله تعالى.
          وقوله: (فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيْسِيِّيْن(96)) يريد الرؤساء المتبوعين على الكفر، وسيأتي اشتقاق هذه اللفظة في آخر هذا الباب إن شاء الله، قال أبو الزناد: فحذره النبي صلعم إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمل به واتبعه عليه، وقال(97)◙: ((من سنَّ سُنَّةً سيئةً كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة)) قال المُهَلَّب: وأصله في كتاب الله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}[العنكبوت:13]وليس على البخاري في إدخاله أحاديث عن أهلِ الكتاب هرقلَ وغيرِه ولا في قوله: (وكانَ حَزَّاءً يَنْظُر في النُّجُومِ) حرج لأنه إنما أخبر أنه كان في الإنجيل ذكر محمد ◙، وكان من يتعلق قبل الإسلام بالنِّجامة ينذر بنبوته لأن علم النِّجامة(98) كان مباحًا ذلك الوقت، فلما جاء الإسلام مَنع منه، فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضي بشيء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على التَّظَنِّي والتبحيث يصيب مرة ويخطئ كثيرًا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه محمدًا صلعم بالوحي الصحيح ونسخ ذلك العَناء الذي كانوا(99) فيه من أمر النجوم وقال لهم: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب(100))).
          وقال ابن(101) المعتز في كتاب «الأدب(102) »: لا يصلح لذي عقل ودين تعاطي علم النجوم لأنه لا سبيل إلى إيصال الصواب منها، والذي يشبه الصواب منها(103) إنما يتهيأ بالاتفاق، وكيف يرضى العاقل من نفسه أن يَكذب مرة ويصدق أخرى، وإنما عمر الإنسان كالبضاعة التي لا ينبغي أن ينفقها إلا في علم يزداد بالإيغال فيه بُعْدًا من الباطل وقربًا من الحق، ولو أمكن ألا يخطئ الناظر في علم النجوم لكان في ذلك تنغيصُ العيش وتكدير لصفوه وتضييق لمتفسَّح الآمال التي بها قرّت الأنفس وعمَرت الدنيا، ولم يَفِ ما يرجَى من الخير بما يتوقع من الشر لأن بعض الناس لو علم أنه يموت إلى سنة لم ينتفع بشيء من دنياه، وهذا لا يشبه تفضُّل الله وإحسانه ورأفته بخلقه، ولو علم الناظر فيها أنه يعيش مائة سنة في صحة وغنى لَبَطِرَ وما انتهى عن فاحشة ولا تورع عن محرم ولا اتَّقى حتفًا(104) هاجمًا ولا زوالَ(105) نعمةٍ، / ولفسدت الدنيا بإهمال الناس لو تركوا أمره ونهيه ولأكل الناس(106) بعضهم بعضًا، ولعل أحدهم(107) كان يؤخر التوبة إلى يوم أو ساعة أو سنة قبل موته فيتحاذق على ربه ويدخل الجنة بتوبته، وليس(108) هذا في حكمة الله وصواب تدبيره، فلا(109) شك أن الخير فيما اختاره الله تعالى لنا(110) من طي ذلك عنا، فله الحمد على جميل صنعه ولطيف إحسانه.
          وقال أبو الحسن الجُرجاني النَّسَّابة في معنى نسبة قريشٍ رسولَ الله إلى أبي كبشة قال: إنما كانت تدعوه بذلك وتغير اسمه عداوةً له إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المهذب صلوات الله عليه، كان وَهْب بن عبد مناف بن زهرة أبو آمنة أم رسول الله صلعم يدعى أبا كبشة، وكان عَمْرو بن زيد بن أسد النجَّاري(111) أبو سلمى أم عبد المطلب يدعى أبا كبشة، وكان في أجداده من قِبَل أمه أبو كبشة وَجْزُ بن غالب بن الحارث وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبي آمنة أم(112) النبي(113) صلعم، وكان أبوه من الرضاعة يدعى أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى بن رِفاعة السَّعدِي، وقال ابن قتيبة: إنما نُسب النبي صلعم إلى أبي كبشة _وهو بعض أجداد أمِّه_ لأنه رجل عَبَدَ الشِّعْرَى ولم تَعرف العرب عبَاْدَة الشِّعْرَى لأحد قبله، وجعلوا فعله في ذلك شذوذًا في الدين، فلما جاءهم رسول الله صلعم بما لا يعرفونه من دينهم ودين آبائهم وشذَّ عنهم في ترك عبَاْدَة الأوثان ودعا إلى دين الله ودين إبراهيم شبَّهوه بأبي كبشة في شذوذه في عِبَاْدَة الشِّعْرَى(114).
          ذِكْرُ ما في(115) بدء الوحي من غريب اللغة:
          قوله: (صَلْصَلَة الجَرَس) الصلصلة والصليل الصوتُ، يقال: صَلَّتْ أجواف الإبل من العطش إذا يبست ثم شربت فسَمعت للماء في أجوافها صوتًا، والجرس معروف وهو شبه(116) الناقوس الصغير يوضع في أعناق الإبل، وأَجْرَس بالجَرَس صوَّت به، والجَرْس الصوت، وقوله: (فَيَفْصِمُ عَنِّيْ) قال صاحب «الأفعال»: فَصَمْتُ الشيء فَصْمًا صدعته من غير أن أُبِيْنَه، وفَصَمَ الشيء عنك ذَهَبَ، وفصمت العقدة حللتها ومنه قوله تعالى: {لاَ انفِصَامَ لَهَا}[البقرة:256]وفيه لغة أخرى قال الأصمعي: يُفصِم يُقلع ومنه قولهم أَفصم المطر إذا أَقلع، فيقال منه: فَعَل وأَفْعَل، وقوله: (يَتَفَصَّد عَرَقًا) يعني يسيل عرقًا ومنه الفَصْدُ قطع العرق، وقول عائشة ♦: (فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْح) يعني ضوء الصبح، والفلق هو الصبح بعينه، وقد قيل في(117) قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]يعني به الصبح، وقيل: إن الفلق اسم جُبٍّ في جهنم.
          وقوله: (فَكَانَ(118) يَتَحَنَّثُ) قال ابن قتيبة: التحنث تَفَعُّل من الحِنْث، وليس بمعنى كَسْبِ الحنث إنما هو أن يلقيه عن نفسه، وجاءت ثلاثة أفعال مخالفة لسائر الأفعال يقال: تحنَّث وتحوَّب وتأثَّم إذا ألقى الحنث والحَوْب والإثم عن نفسه، وغيرها من الأفعال إنما يكون تفعَّل منها بمعنى تَكَسَّبَ، وقوله: (فَغَطَّنِي) قال صاحب «العين»: غطَّه في الماء يغُطُّه ويغُطُّه غرَّقه، وقوله: (يَرْجُفُ فُؤَادُه) يقال: رجف الشيء يرجُف رجفًا تحرك، وقول يونس ومعمّر: (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) قال أبو عبيد: البادرة اللحمة التي بين أصل العنق والمنكب الضاربة، وأنشد غيره:
وجـاءت الخيـل محمَـرًّا بَوَادِرُهـا
          وقوله: (النَّامُوسُ الذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى) قال ابن دريد: ناموسُ الرجل صاحبُ سره، وكل شيء سترت فيه شيئًا فهو ناموس له، وقال أبو عبيد: الناموس جبريل ◙، وقوله: (نَصْرًا مُؤَزَّرًا) أي قويًّا مأخوذ من الأزر وهو القوة، ومنه قوله ╡: {أَخِي(119). اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[طه:30-31]أي قوَّتي وقيل: أَزْرِي ظهري، خَص الظهر لأن القوة فيه، وقوله: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) أي لم ينشب في شيء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة، وقوله: (فحمي الوحي وتتابع) هو كقوله ◙ يوم حنين حين اشتدت الحرب وهاجت: ((الآن حمي الوطيس)) والوطيس التنور، وقال صاحب «العين»: حميت النار والشمس اشتد حرهما، وحمي الفرس إذا سخَن وعرق، وأحميت الحديد في النار.
          وقوله: (فِي الْمُدَّةِ الَّتِيْ مَادّ فِيْهَا كُفَّارَ قُرَيْش) فهو صلح الحديبية، ومادَّ فاعَل مِن المدة التي اتفق معهم على الصلح مدةً ما من الزمان، تقول العرب: تمادَّ الغريمان والمتبايعان إذا اتفقا على أجل ومدة(120)، وهي مفاعلة من اثنين.
          وقوله: / (الحَرْبُ بَيْننَا وَبَيْنَه سِجَالٌ) قال صاحب «العين»: الحرب سجال(121) أي مَرَّة فيها سَجْلٌ على هؤلاء ومَرَّة على هؤلاء، والسَّجْل مَلْءُ الدلو، والمساجلة المباراة في العمل أيهما يغلب صاحبه، وأنشد:
مـن يساجلْنـي يساجـلْ ماجدًا                     يمـلأُ الدلـو إلى عَقْـدِ الْكَـرَب
          وأصله من تساجلهما في الاستقاء، قال المبرد: فضربته العرب مثلًا للمفاخرة والمساماة.
          وقوله: (وَكَذَلِكَ الإِيْمَانُ حِيْنَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ(122) القُلُوبَ) أصل البشاشة اللطف والإقبال على الرجل، يقال: بشِشْت بشًا وبشاشةً، وقد تبشبشت، عن صاحب «العين»، فبشاشة الإيمان على هذا فرحُ قلبِ المؤمنِ به وسرورُه.
          وقال الحربي في تفسير الْأَرِيْسِيِّيْنَ عن بعض أهل اللغة قال: الأَرِيْسُ الأمير، والمؤرَّس الذي يستعمله الأمير وقد أرَّسه، والأصل رأَّسه فقُلب وغيِّر في النَّسَب، والنَّسَبُ يُغيَّر له الكلام كثيرًا، قال المؤلف: والصواب على هذا أن يقال: الإِرِّيسيين بكسر الهمزة وتشديد الراء، وذكر الْمُطَرِّز عن ثعلب عن عَمْرو بن أبي عَمْرو عن أبيه قال: الأَرِيس الأكَّار، والصخَب الصياح صخِب صخبًا إذا صاح، وقوله: (أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ) يقال: أَمِرَ الشيء إذا كثر.
          وقال ابن الأنباري: وإنما قيل للروم بنو الأصفر لأن حبشيًّا غلب على ناحيتهم في بعض الدهور فوطِئ سبيًا(123)، فولدن أولادًا فيهن(124) من بياض الروم وسواد الحبشة فكُنَّ صُفرًا لُعْسًا، فنسبت الروم إلى الأصفر لذلك(125).
          وقوله: (ابن الناطور) قال دريد: الناطور حافظ النخل والثمر(126)، وقد تكلمت به العرب وإن كان أعجميًّا، وقال أبو عبيد: هو الناظور بالظاء المعجمة والنَّبَط يجعلون الظاء طاء وإنما سمي الناظور من النظر، قوله: (وَكَان حَزَّاءً) قال صاحب «العين»: حَزَا يَحْزُو حزوًا إذا كهَن، وحزَى يَحزِي حزيًا وتحزَّى تحزية، وقوله: (فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ) يعني لم يبرح، عن صاحب «العين» يقال: ما يَريم بفعل كذا أي ما يبرح، و(الدَّسْكرة) بناء كالقصر حوله بيوت، وقوله: (حَاصُوا حَيْصَة حُمُر الوَحْش) قال أبو عبيد: حاص يحيص وجاص يجيص بمعنى واحدٍ إذا عدَل عن الطريق، وقال أبو زيد: حاص رجع، وجاصَ عدَل.


[1] زاد في (م): (({وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88])).
[2] زاد في (ص) والمطبوع: ((إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ)).
[3] في (ص): ((يتزوجها)).
[4] في (م): ((وحي الرسالة لا وحي الإلهام)).
[5] زاد في (م): ((له)).
[6] في (م): ((بقراءته)).
[7] في حاشية (م): ((والثالث [كذا في (م) وصوابها: والثلث الثاني] قوله ◙: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والثلث الثالث: (الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن وبينهما أمور متشابهات)، وفي «شرح الموطأ» لِلْقُنَازِعي قال: وهذا الحديث هو أحد الأربعة التي هي دعائم الإسلام، والحديث الثاني قوله ◙: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والحديث الثالث قوله ◙: (الدين النصيحة)، والحديث الرابع قوله ◙ للذي اختصر له في الوصية: (لا تغضب) تَمَّتْ)).
[8] قوله ((وأنبياءَه)) مطموس في (ز) والمثبت من (م) و (ص).
[9] قوله ((خص المرأة)) مطموس في (ز) والمثبت من (م) و (ص).
[10] في (م): ((تتزوج)).
[11] قوله ((عنه)) ليس في (م).
[12] في حاشية (م): ((قال الشيخ الْمَازَرِيُّ في كتابه «الْمُعْلِم»: حِراء بالمد جبلٌ بينه وبين مكة ثلاثة أميال، عن يسارك إذا سرت إلى منى، ويجوز فيه التذكير والتأنيث والتذكير أكثر. تَمَّتْ)).
[13] في حاشية (م): ((قال الشيخ المازَري في كتابه «المعْلم»: اختلف الناس هل كان النبي ◙ متعبدًا قبل نبوته بشريعة أم لا؟ فقال بعضهم: إنه كان غير متعبد أصلًا، ثم اختلف هؤلاء هل ينتفي ذلك عقلًا أو نقلًا؟ فقال بعض المبتدعة: ينتفي عقلًا لأن في ذلك تنفيرًا عنه، ومن كان تابعًا يبعد أن يكون متبوعًا، وهذا خطأ والعقل لا يحيل هذا، وقال آخرون من حذاق أهل السنة: ربما ينتفي ذلك من أجل أنه لو كان لنُقل ولتداولته الألسن وذكر في سيرته، فإن هذا مما جرت العادة بأنه لا يتكتم، وقال غير هاتين الطائفتين: بل هو متعبد، ثم اختلفوا أيضًا هل كان متعبدًا بشريعة إبراهيم أو غيره من الرسل؟ فقيل في ذلك أقوال، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ((أن أتبع ملة إبراهيم ◙)) في توحيد الله وصفاته. تمت أقوال)).
[14] زاد في (ص): ((♦)).
[15] في (م) و (ص): ((فيتزود)).
[16] في (م) و (ص): ((قال)).
[17] في (ز): ((فقال)) والمثبت من (م) و (ص).
[18] قوله: ((فزملوه)) ليس في (ص).
[19] في (م) و (ص): ((لا)).
[20] قوله ((فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ)) ليس في (م).
[21] في (م): ((رجل بمثل ما جئت به قط)).
[22] قوله ((قال)) ليس في (م).
[23] قوله ((زملوني)) ليس في (م).
[24] في (ص): ((جمعَهُ)) بصيغة الماضي.
[25] في (م): ((جمعه له صدرك)).
[26] في (م): ((وإلا)).
[27] في (م): ((من أخلص لله ╡ أنزل عليه)).
[28] في (م): ((قال)).
[29] قوله ((وإن)) ليس في (م).
[30] في (م): ((وقوله)).
[31] قوله ((على)) ليس في (م).
[32] قوله ((على)) ليس في (م).
[33] في (ص): ((قال المهلب: قوله: في مثل صلصلة...ردٌّ على الشافعي)) مطموس في (ص).
[34] في (ص): ((الرَّسول)).
[35] في (م) و (ص): ((حال)).
[36] في (ز): أشار إلى نسخة ((يشاور)).
[37] في (ص): ((ويقع)).
[38] زاد في (م): ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).
[39] قوله: ((أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ... فَلَرَسُولُ اللهِ صلعم)) زيادة من (م) و (ص).
[40] في (م): ((مناجاته)).
[41] في (م): ((من طاعة ربه)).
[42] في (م): ((لتزيده إلا)).
[43] في (م): ((وزهدًا)).
[44] زاد (م): ((دليل)).
[45] لعلها في (ز): ((بقراءة)).
[46] في (م) و (ص): ((بذلك رمضان)).
[47] في (م): ((شهر)).
[48] قوله ((والقراءة)) ليس في (م).
[49] في (ص): ((القيام والقراءة)).
[50] ضبطت: ((تـِجَارًا)) وكلاهما جمع صحيح.
[51] في (م): ((تَرْجُمَانَهُ)) وضُبطت بضم التاء.
[52] في (م): ((كان أوَّلَ)).
[53] في (م) و (ص): ((قلت)).
[54] في (ص): ((للتُّرجمان)).
[55] في (م) و (ص): ((وكذلك)).
[56] في (م): ((وإن)).
[57] قوله ((مع)) ليس في (م).
[58] في (م) حاشية: ((حكَى الشيخ عن ابن السِّكِّيْتِ أنه يقال دِحية بالكسر لا غير، وحكى عن أبي حاتم أنه يقال بالفتح لا غير، وقال الْمُطَرِّزُ: الدُّحَى الرؤساء واحدهم دِحية، ودِحية هذا المبعوث هو دِحية بن خليفة الكلبي. تم من المعْلم)).
[59] قوله ((الكلبي)) ليس في (م).
[60] في (م): ((أسقف)).
[61] زاد في (م): ((أهل)).
[62] في (م): ((فحدث)).
[63] في (م): ((فليقتلوا)).
[64] في (م): ((مختتنون)).
[65] ضبطت ((مَلِك)) وكلاهما صحيح.
[66] في (م): ((وصار)).
[67] في (م): ((النبي صلعم)).
[68] في (م): ((فنبايع)).
[69] في (م): ((ويئس)).
[70] قوله: ((أنه خارج ولم أكن...فقد رأيت فسجدوا له)) مطموس في (ص).
[71] في (م): ((وكان)).
[72] زاد في (م): ((صلعم)).
[73] نبَّه في (ص) إلى نسخة: ((الرسول)).
[74] زاد في (م): ((إنهم)) ووضع فوقها علامة تضبيب.
[75] في (م): ((إن كذب...صدق)).
[76] في (م): ((شهادة العدو)).
[77] في (ص): ((أشرف)).
[78] في (م): ((الصدق)).
[79] زاد في (م): ((من)).
[80] في (م): ((فلأن)).
[81] في (م): ((غيرها)).
[82] قوله ((به)) ليس في (م) و (ص).
[83] في (م): ((لها)).
[84] في (م) و (ص): ((لحكمة)).
[85] قوله: ((في كل رمضان، وخص رمضان بذلك...إلى آخر سؤاله، فقال في كل)) زيادة من (م).
[86] في (ص): ((مكتوبًا عندهم)).
[87] قوله: ((يعني)) ليس في (ص).
[88] في (م): ((إن)).
[89] في (ز) و (ص): ((رَدُّ)) والمثبت من (م).
[90] في (م): ((المحاربين)).
[91] في (ص): ((مالك وأكثر الكوفيين)).
[92] في (م): ((صناعة)).
[93] في (م): ((وأسلمت)).
[94] زاد في (م): ((كان)).
[95] قوله: ((كافة)) ليس في (ص).
[96] في (م) حاشية: ((يروى البريسيين بالباء والأريسيين بالهمز، وقد اضطرب في معنى هذه اللفظة اضطرابًا كبيرًا، وأَمْثل ما أحفظ في ذلك أن المراد به الأَكَّارون أو الملوك والرؤساء، قال ابن الأعرابي: أرِسَ الرجل يأرِس إِرْسًا صار أريسًا أي أكَّارًا، وأَرِيس يُورِس مثله، وجمعه أريسيون، فيكون المعنى على هذا أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لك، ونبَّه بالأكارين على الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه إذ هم أكثر انقيادًا من غيرهم، وقد يراد به أيضًا الملوك والرؤساء فيكون المعنى على هذا التأويل: فإنك عليك إثم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بهذا. تم)).
[97] في (م): ((وقد قال)).
[98] في (م): ((النجوم)).
[99] قوله ((كانوا)) مخروم في (ز).
[100] في (م): ((لا نكتب ولا نحسب)).
[101] قوله ((ابن)) مطموس في (ز) و(ص) والمثبت من (م).
[102] لعلها: ((الآداب)) الكلمة مطموسة في (ص).
[103] في (م): ((فيها)).
[104] في المطبوع: ((ولا أتى حنفًا)).
[105] في المطبوع: ((ولزالت)).
[106] قوله ((الناس)) ليس في (م).
[107] في (ص): ((بعضهم)).
[108] في (ص): ((ليس)).
[109] في (ص): ((ولا)).
[110] في (م): ((فيما اختار لنا)).
[111] في (ص): ((عمرو بن زيد بن أسد بن النجاري)).
[112] في (م): ((أب)).
[113] في (ص): ((الرَّسول)).
[114] في (م) حاشية: ((فائدة الشذوذ في الشِّعرى أنه كوكب شاذ يقال له العَبور، ويقال إنه يقطع السماء عرضًا وليس في النجوم من يقطع السماء كذلك، والمنجمون ينكرون هذا القول، فيأتي على قولهم أنه خالف العرب في العبادة كما خالف أبو كبشة في عبادة النجم خاصة، فيعود الشذوذ على أبي كبشة دون النجم، متأوَّل، تم. حكاه المازَرِي)).
[115] زاد في (م): ((كتاب)).
[116] في (م): ((يشبه)).
[117] زاد في (م): ((تأويل)).
[118] في (ص): ((كان)).
[119] قوله ((أخي)) ليس في (م).
[120] زاد في (ص): ((ما)).
[121] قوله ((الحرب سجال)) ليس في (م).
[122] صورتها في (ز): ((بشاشة)) والمثبت من (ص).
[123] في الزاهر لابن الأنباري: ((نساءهم)). وعليها علامة تضبيب في (ص) وفي حاشيتها (نسائهم) ورمز لها بنسخة.
[124] في (ص): ((فيهم)).
[125] في (ص): ((بذلك)).
[126] في (ص): ((والتمر)).