شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون

          ░111▒ بابُ: عَزمِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ
          فيه: ابْنُ مسعودٍ: قَالَ: لَقَدْ سَأَلَنِي رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا في الْمَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا في أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ إِلَّا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم فَعَسَى أَلَّا يَعْزِمَ عَلَيْنَا في أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللهَ، وَإِذَا شَكَّ في نَفْسِهِ شَيْءٌ سَأَلَ رَجُلًا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، والذي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِيَ كَدَرُهُ. [خ¦2964]
          قال المُهَلَّب: هذا الحديث يدلُّ على شدَّة لزوم النَّاس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام؛ ألا ترى تحرُّج السَّائل لعبدالله وتعرُّفه كيف موقع التَّخلُّف عن أمر السُّلطان من السُّنَّة، وتحرُّج عبد الله من أن يفتيه في ذلك برخصةٍ أو شدَّةٍ، ولكن قد فسَّر الرَّسول ◙ ذلك في الحديث الذي أمر فيه بعض قوَّاده أن يجمعوا حطبًا ويوقدونها ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها. قال بعضهم: إنَّما دخلنا في الإسلام فرارًا من النَّار، فلم يزالوا يتمارون حتَّى خمدت النَّار وسكن غضبه، فأُخبِر الرَّسول ◙ بذلك فقال: ((لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنَّما الطَّاعة في المعروف))، وقول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]يقضي على ذلك كلِّه، وقد كان له أن يكلِّفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضَّل في أخذ العفو، هذا معنى الحديث.
          وفيه تشكِّي عبد الله بن مسعودٍ قلَّة العلماء وتغيُّر الزَّمن عمَّا كان عليه / في وقت رسول الله.
          وقوله: (مُؤْدِيًا) معناه: ذو أداةٍ وسلاحٍ تامِّ العدَّة والشَّكل، عن أبي عبيدٍ.
          وقوله: (مَا غَبرَ مِنَ الدُّنيَا) يعني: بقي، والغابر هو الباقي، ومنه قوله: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}[الشعراء:171]يعني: ممَّن تخلَّف فلم تمض مع لوطٍ.
          وقوله: (كَالثَّغبِ) قال صاحب «العين»: الثَّغْب: ما يستنقع في صخرةٍ، والجمع: ثُغبانٌ.