شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة]

          ░░20▒▒
          ░1▒ بَابُ: فَضْلِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ والمَدِينَةِ.
          فيهِ: أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ والمَسْجِدِ الأَقْصَى). [خ¦1188] [خ¦1189]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ(1) النَّبيُّ صلعم: (صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ). [خ¦1190]
          قال المُؤَلِّفُ: هذا الحديث في النَّهي عن إعمال المَطِيِّ، إنِّما هو عند العلماء فيمن نَذَرَ على نفسه الصَّلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثَّلاثة المذكورة، قال مالكٌ: مَن نَذَرَ صلاةً في مسجدٍ لا يَصِلُ إليه إلَّا براحلةٍ، فإنَّه يُصَلِّي في(2) بلده، إلَّا أن ينذر ذلك في مسجد مكَّة أو المدينة(3) أو بيت المَقْدِسِ، فعليه السَّير إليها(4).
          وقال(5) المُؤَلِّفُ: وأمَّا من أراد الصَّلاة في مساجد الصَّالحين والتَّبرُّك بها متطوِّعًا بذلك، فمباحٌ له قصدها بإعمال المِطِيِّ(6) وغيره، ولا يتوجَّه إليه النَّهي في هذا الحديث.
          فإن قيل: فإنَّ أبا هريرةَ أعمل المَطِيَّ إلى الطُّور، فلمَّا انصرف لقيه نَضْرَةُ بنُ أبي نَضْرَةَ(7)، فأنكر(8) عليه خُرُوجه، وقال له: لو أدركتُك قبلَ أنْ تخرجَ ما خرجْتَ، سمعْتُ النَّبيَّ(9) صلعم يقولُ: ((لا تُعْمَلُ المَطِيُّ إلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ)). فدلَّ أنَّ مذهبَ نَضْرَةَ(10) حملُ الحديثِ على العُمُومِ في النَّهي عن إعمالِ المَطِيِّ إلى غيرِ الثَّلاثة المساجد على كلِّ حال، فدخل فيه النَّاذِر والمتطوِّع.
          قيل له: ليس كما ظننتَ، وإنَّما أنكر نَضْرَةُ(11) على أبي هريرةَ خُرُوجه إلى الطُّور؛ لأنَّ أبا هريرةَ كان من أهل المدينة(12) التي فيها أحد المساجد الثَّلاثة التي أُمر بإعمال المَطِيِّ إليها، ومَن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان، وليس في الحديث أنَّ أبا هريرةَ نَذَرَ السَّير إلى الطُّور، وإنَّما ظاهره(13) أنَّه خرج متطوِّعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل(14) من الطُّور، لأنَّ مسجد المدينة ومسجد بيت المَقْدِسِ أفضل من الطُّور.
          وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة(15)، فنَذَرَ المشي إلى(16) بيت المَقْدِسِ، فقال مالكٌ: يمشي(17) ويركب. وقال الأوزاعيُّ: يمشي ويركب ويتصدَّق. وقال أبو حَنِيْفَةَ وأصحابه: يُصَلِّي في مسجد المدينة أو مكَّة(18). واحتَجَّ أبو يُوسُفَ في ذلك بأنَّ(19) الصَّلاة في مكَّة والمدينة أفضل من الصَّلاة في بيت المَقْدِسِ، فلذلك أجزأُه.
          وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ: من نَذَرَ أن يعتكفَ في مسجدِ إيلياء، فاعتكفَ في مسجدِ النَّبيِّ صلعم أجزأ عنه، ومن نَذَرَ أن يعتكفَ في مسجدِ(20) النَّبيِّ صلعم فاعتكفَ في المسجدِ الحرام أجزأ عنه، وقال الشَّافعيُّ: يمشي إلى مسجدِ المدينة، ومسجد بيت المَقْدِسِ، / إذا نذر ذلك، ولا يتبيَّن لي وُجُوبه عليه، لأنَّ البِرَّ بإتيان بيتِ اللهِ ╡ فرضٌ، والبِرُّ بإتيان هذين نافلةٌ.
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: من نَذَرَ المشي إلى مسجدِ الرَّسُولِ، والمسجدِ(21) الحرام، وَجَبَ عليه ذلك لأنَّ الوفاءَ به طاعةٌ، ومن نَذَرَ المشي إلى بيتِ المَقْدِسِ كان بالخيار إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام لحديث جابرٍ: أنَّ(22) رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ صلعم: إنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عليكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ في بِيْتِ المَقْدِسِ، قالَ: ((صَلِّ هَاهُنَا ثلاثًا)).
          وقال أبو يُوسُف: إن نَذَرَ أن يُصَلِّي في المسجد الحرام، فصَلَّى في بيتِ المَقْدِسِ لم يُجْزِهِ(23)، لأنَّه صَلَّى في مكان ليس له من الفَضْلِ ما للمكان(24) الَّذي أوجب على نفسه فيه الصَّلاة. وحكى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيْفَةَ ومُحَمَّدٍ أنَّه من جَعَلَ لله(25) عليه أن يُصَلِّي في مكانٍ، فصَلَّى في غيره أجزأه. واحتَجَّ لهم الطَّحَاوِيُّ بأنَّ(26) معنى قوله ◙: ((صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيْمَا سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ)) أنَّ المراد به الفريضة لا النَّافلة، لقوله صلعم: ((خَيْرُ صَلَاةِ المَرْءِ في بَيْتِهِ إلَّا المَكْتُوْبَةَ))، فثبت فساد ما احتَجَّ به أبو يُوسُفَ، وثبت أنَّ من أوجب على نفسه صلاة في مكان(27)، وصلَّى في غيره أجزأه. وأمَّا قوله صلعم: ((صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيْمَا سِوَاه إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ))، فإنَّ العلماء اختلفوا في تفضيل مكَّة على المدينة، أو المدينة على مكَّة، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ المدينة أفضل من مكَّة(28)، رُوِيَ هذا عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وهو قول مالكٍ وكثيرٍ من أهل(29) المدينة. وذهبت طائفةٌ إلى تفضيل مكَّة، هذا قول عَطَاءٍ والمكِّيين وأهلِ الكوفة والشَّافعيِّ.
          وقال(30) الشَّافعيٌّ: مكَّة أفضل البقاع، ذكره السَّاجِيُّ، وهو قول ابنِ وَهْبٍ _صاحب مالكٍ_ وابنِ حَبِيْبٍ الأَنْدَلُسيِّ، وكلا الطَّائفتين نزعت بحديث أبي هريرةَ.
          قال المُؤَلِّفُ: وليس في حديث أبي هريرةَ حجَّةٌ لواحدٍ منهما، وإنَّما يُفْهَمُ من لفظ حديث أبي هريرةَ أنَّ صلاةً في مسجدِ الرَّسُولِ صلعم خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه من المساجد، ثمَّ استثنى المسجدَ الحرام، وحُكْمُ الاستثناء عند أهل اللِّسان(31) إخراج الشَّيء مما دخل فيه هو وغيره بلفظٍ شاملٍ لهما، وإدخاله(32) فيما خَرَجَ منه هو وغيره بلفظٍ شاملٍ لهما. وقد مثَّل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثالٍ بَيَّنَ(33) فيه معناه، فإذا(34) قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجةٍ إلَّا العراق، جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا وأن(35) يكون مفضولًا، فإن(36) كان مساويًا فقد عُلِمَ فضله، وإن(37) كان فاضلًا أو مفضولًا لم يقدر(38) مقدار المفاضلة بينهما إلَّا بدليل على عدَّة درجات، إمَّا(39) زائدة على ذلك،(40) أو ناقصة عنها فيُحتاج إلى ذكرها.
          وممَّا احتَجَّ به أهل المقالة الأولى على ذلك ما رواه(41) ابنُ عُيَيْنَةَ، عن زيادِ بنِ سَعْدٍ، سمع سُلَيْمَانَ بنَ عَتِيْقٍ، سمع ابنَ الزُّبَيْرِ(42)، سمع عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، يقول: صلاةٌ في المسجدِ الحرامِ خيرٌ مِنَ مائةِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ.
          قال أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي صُفْرَةَ: فقول عُمَرَ هذا يُفَسِّرُ قوله(43) صلعم: ((صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فَيْمَا سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ)) فإنَّ مسجدي خيرٌ من تسعِ مائةٍ منه(44). ومثل هذا التأويل تأوَّلَ(45) عبدُ اللهِ بنُ نافعٍ صاحب مالكٍ(46) حديث أبي هريرةَ، فكان يقول: الصَّلاة في مسجد الرَّسُول(47) أفضل من الصَّلاة في سائر المساجد بألف صلاةٍ إلَّا المسجد الحرام، فإن الصَّلاة في مسجد النَّبيِّ صلعم أفضل من الصَّلاة(48) فيه بدون الألف. واحتَجَّ أهل المقالة الثَّانية بما رواه حمَّادُ بنُ زيدٍ عن حَبِيْبٍ المُعَلِّمِ عن عَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ(49)، عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ في المَسْجِدِ الحَرَامِ بمائةِ صَلَاةٍ(50))).
          واحتَجُّوا من طريق النَّظر بأنَّ الله تعالى فَرَضَ على عباده قصد بيته الحرام مَرَّة في العُمُر، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة، قالوا: ومن قول مالكٍ أنَّ من نَذَرَ الصَّلاة في مسجد النَّبيِّ(51) صلعم، والمشي إليه أنَّه لا(52) يلزمه المشي إليه، وعليه أن يأتيه راكبًا، ومن نَذَرَ المشي إلى مكَّة فإنَّه يمشي إليها ولا يركب. فدلَّ هذا من قوله أنَّ مكَّة أفضل، لأنَّه لم يوجب(53) المشي إليها إلَّا لعظيم(54) حُرْمَتِها وكبير فَضْلِها(55).


[1] في (م): ((قال)) لم يتكرر.
[2] زاد في (م): ((مسجد)).
[3] في (ص): ((والمدينة)).
[4] في (ص): ((إليهم)).
[5] في (م): ((قال)).
[6] في (م): ((مطي)).
[7] في (م): ((بصرة بن أبي بصرة)). في (ص): ((نضرة بن نضرة)).
[8] في (م): ((وأنكر)).
[9] في (ص): ((الرسول)).
[10] في (م): ((بصرة)).
[11] في (م): ((بصرة)).
[12] في (م): ((البلدة)).
[13] في (م): ((ظاهر الحديث)).
[14] في (م): ((بالقصد)).
[15] في (م): ((من المدينة)).
[16] زاد في (م): ((مسجد)).
[17] زاد في (م): ((في ذلك)).
[18] في (م): ((أو في مكَّة ويجزئه)).
[19] في (م): ((يوسف في أنَّ)).
[20] قوله: ((إيلياء، فاعتكفَ في مسجدِ النَّبيِّ صلعم أجزأ عنه، ومن نَذَرَ أن يعتكفَ في مسجد)) ليس في (ص).
[21] في (م): ((ومسجد)).
[22] في (ي): ((لأنَّ)).
[23] في (م): ((يجزئه)).
[24] في (م): ((ليس للصَّلاة فيه من الفضل ما للصَّلاة في المكان)).
[25] في (م): ((الله)).
[26] في (م): ((واحتجَّ الطَّحاويُّ لقولهما بأنَّ)).
[27] قوله: ((في مكان)) ليس في (ص).
[28] في (م): ((فإنَّ العلماء اختلفوا في معناه فذهبت طائفةٌ إلى تفضيل مكَّة على المدينة وذهبت طائفة إلى تفضيل المدينة على مكَّة)).
[29] في (م): ((وأكثر أهل)).
[30] في (م): ((قال)).
[31] في (م): ((العربيَّة)).
[32] في (م): ((أو إدخاله)).
[33] في (م) لعلَّها: ((تبيَّن)).
[34] في (م): ((فقال إذا)).
[35] في (م): ((وجاز أن)).
[36] في (م): ((فإذا)).
[37] في (م): ((وإذا)).
[38] في (م): ((يعلم)).
[39] في (م): ((ما)).
[40] في (م): ((تلك)).
[41] في (م): ((مما روى)).
[42] قوله: ((على ذلك ما رواه ابن عُيَيْنَة، عن زياد بن سَعْد، سمع سُلَيْمَان بن عَتِيْق، سمع ابن الزُّبَيْر)) ليس في (ز) وهي مثبتة من المطبوع و(م).
[43] في المطبوع و(ص): ((قول النَّبيِّ)).
[44] في (م): ((تسع مائة صلاة فيه)).
[45] في (م) و(ي): ((تأويل)).
[46] في (م): ((في)).
[47] زاد في (ص): ((خير)).
[48] قوله: ((في سائرِ المساجد بألفِ صلاةٍ إلَّا المسجد الحرام، فإنَّ الصَّلاةَ في مسجدِ النَّبيِّ صلعم أفضل من الصَّلاة)) ليس في (ي).
[49] كتب في حاشية (م): ((وثَّقه ابن معين وغيره)).
[50] في (م): ((صلعم: صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من الصَّلاة في مسجدي هذا بمائة صلاةٍ))، وفي المطبوع: ((صلعم صلاة في المسجد الحرام أفضل من الصَّلاة في مسجدي هذا بمائة صلاةٍ))، وزاد في (م): ((وروي عن قتادة مثله)).
[51] في (ص): ((الرسول)).
[52] في (ص): ((إليه أن لا)).
[53] في (ص): ((يؤثر)).
[54] في المطبوع: ((لتعظيم)).
[55] كتب في حاشية (م): ((ابن وَهْبٍ من نذر أن يمشي إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس يمشي إليهما وإن بعد، تقدَّم الكلام وفيها من كون أيُّهما... نقلت من نسخة مذكور فيها أنَّها بخطِّ المصنِّف)).