شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا حمل على فرس فرآها تباع

          ░137▒ باب: إِذَا حَمَلَ على فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ على فَرَسٍ في سَبِيلِ اللهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ: (لا تَبْتَعْهُ وَلا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ في صدقته كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ). [خ¦3002]
          وفيه: الحمل على الخيل في سبيل الله. وفيه: أنَّه من حمل على فرسٍ في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله، ألا ترى أنَّ رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنَّما أنكر على عمر شراءه.
          واختلف العلماء فيمن حمل على فرس في سبيل الله ولم يقل: هو حبسٌ في سبيل الله، فروى مالكٌ، عن ابن عمر أنَّه كان إذا أعطى شيئًا في سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به.
          قال أحمد بن حنبل: إنَّما قال ذلك ابن عمر لأنَّه كان يذهب إلى أنَّ المحمول عليه إنَّما يستحقُّه بعد الغزو. وكذلك قال سعيد بن المسيِّب: إذا أعطى الرَّجل الشَّيء في الغزو فبلغ به رأس مغزاته، فهو له. وهو قول القاسم، وسالمٍ، والثَّوريِّ، واللَّيث، قال اللَّيث: إلَّا أن يكون حبسًا فلا يباع. والعلماء متَّفقون في الحبس أنَّه لا يباع غير الكوفيِّين الذين لا يجيزون الأحباس. وقال مالكٌ: من أعطى فرسًا في سبيل الله، وقيل له: هو لك في سبيل الله فله أن يبيعه، فإن قيل: هو في سبيل الله، ركبه وردَّه، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه. وقال أبو حنيفة والشَّافعيِّ: الفرس المحمول عليه في سبيل الله هو تمليكٌ لمن يحمل عليه.
          وإن قيل له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، كان تمليكًا على مخاطرةٍ ولم يجز، وهي عندهم عطيةً غير بَتْلَةٍ؛ لأنَّها شرطٌ قد يقع وقد لا يقع لجواز موته قبل بلوغه رأس مغزاته، ولم يملك منه شيئًا قبل ذلك.
          وأمّا إذا قال له: هو لك في سبيل الله، أو أحملك عليه في سبيل الله فقد أعطاه إيَّاه على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيِّب عند الكوفيِّين والشَّافعيِّ، وسواءٌ ذلك كلُّه عند مالكٍ؛ لأنَّه إذا قال له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، فمعناه عنده أنَّ لك أن تتصرَّف فيه حينئذٍ بما يتصرَّف به المالك، وقد صحَّ له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه. واختلفوا في كراهية شراء صدقة الفرض والتَّطوُّع إذا أخرجها من يده، فقال مالك في «الموطَّأ» في رجل تصدَّق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذي تصدَّق بها عليه: تركها أحبُّ إلى.
          وكره اللَّيث والشَّافعيُّ ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا في شراء ما يخرجه الإنسان في كفَّارة اليمين، وإنَّما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنَّها راجعةٌ إليه بغير ذلك المعنى، ويشهد لهذا حديث بريرة في اللَّحم الذي تُصِدَّق عليها به، وإجماعهم أنَّ من تصدَّق بصدقةٍ ثمَّ ورثها أنَّها حلالٌ له، وقد تقصَّيت الكلام في هذه المسألة في باب: هل يشتري الرَّجل صدقته، في كتاب الزكاة، [خ¦1489] فتأمَّله هناك.