شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب الجهاد والسير]

          ░░56▒▒ كِتَاب الْجِهَادِ.
          ░1▒ بابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ.
          وَقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} إلى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[التوبة:111-112].
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ.
          فيه: ابْنُ مَسْعُودٍ: (سَأَلْتُ الرَّسُولَ صلعم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاةُ على مِيقَاتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي). [خ¦2782]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبيُّ ◙: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا). [خ¦2783]
          وفيه عَائِشَةُ: (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ). [خ¦2784]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ: دُلَّنِي على عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: لا أَجِدُهُ، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ في طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ). [خ¦2785]
          قال الطَّبريُّ: معنى حديث ابن مسعودٍ أنَّ الصَّلاة المفروضة وبرَّ الوالدين والجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أنَّ من ضيَّع الصَّلاة المفروضة، / حتَّى خرج وقتها لغير عذرٍ يعذر به(1) مع خفَّة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شكَّ لغيرها من أمر الدِّين والإسلام أشدُّ تضييعًا، وبه أشدُّ تهاونًا واستخفافًا، وكذلك من ترك برَّ والديه وضيَّع حقوقهما مع عظيم حقِّهما عليه بتربيتهما إيَّاه، وتقطُّعهما عليه، ورفقهما به صغيرًا وإحسانهما إليه كثيرًا، وخالف أمر الله ووصيَّته إيَّاه فيهما، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشدُّ تضييعًا، وكذلك من ترك جهاد أعداء الله، وخالف أمره في قتالهم مع كفرهم بالله ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب، فهو لجهاد من دونهم من فسَّاق أهل التَّوحيد ومحاربة من سواهم من أهل الزَّيغ والنِّفاق أشدُّ تركًا، فهذه الأمور الثَّلاثة تجمع المحافظة عليهنَّ الدَّلالة لمن حافظهنَّ أنَّه محافظٌ على سواهنَّ، ويجمع تضييعهنَّ الدَّلالة على تضييع ما سواهنَّ من أمر الدِّين والإسلام فلذلك خصَّهنَّ صلعم بأنَّهنَّ أفضل الأعمال.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا الهجرة فكانت فرضًا في أوَّل الإسلام على من أسلم، لقلَّتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتَّأليف، فلمَّا فتح الله مكَّة دخل النَّاس في دين الله أفواجًا سقط فرض الهجرة، وبقي فرض الجهاد والنِّيَّة على من قام به أو أنزل به عدوٌ، وإنَّما جُعل الحجُّ أفضل للنِّساء من الجهاد لقلَّة غنائهنَّ في الجهاد، وفي حديث أبي هريرة أنَّ المجاهد على كلِّ أحواله يكتب له ما يكتب للمتعبِّد فالجهاد أفضل من التَّنفُّل بالصَّلاة والصِّيام.
          وقوله: ((لَيَسْتَنُّ في طِوَلِهِ)) يعني ليأخذ في السَّنن على وجهٍ واحدٍ ماضيًا وهو يفتعل من السَّنن ويقال: فلان يستنُّ الرِّيح والسَّيل إذا كان على جهتها وممرِّها، وأهل الحجاز يقولون: سُنن بضم السِّين
          وفي قوله تعالى: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[التوبة:111]دليلٌ على أنَّ القاتل والمقتول في سبيل الله جميعًا في الجنَّة. وقال بعض الصَّحابة: ((ما أبالي قَتلت في سبيل الله أو قُتِلت)) وتلا هذه الآية وهذا يردُّ على الشَّعبيِّ أنَّ الغالب في سبيل الله أعظم أجرًا من المقتول.


[1] كذا ترجحت قراءتنا لهذه الكلمة في (ص) وفي المطبوع ((فقدرته)).