شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب القدر]

          ░░82▒▒ كِتَابُ القَدَرِ.
          ░1▒ القَدَرُ(1).
          فيهِ: عَبْدُ اللهِ(2): (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعَةٍ، بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، أَوِ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ بَاعٍ(3)، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ بَاعٍ(4)، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا). [خ¦6594]
          وفيهِ: أَنَسٌ، قَالَ النَّبي صلعم(5): (وَكَّلَ اللهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نُطْفَةٌ؟ أَيْ رَبِّ، عَلَقَةٌ؟ أَيْ رَبِّ، مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ(6) أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا، قَالَ: يا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ(7)؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ في بَطْنِ أُمِّهِ). [خ¦6595]
          قال المُهَلَّبُ: في هذا الحديث ردٌّ لقول القدريَّة واعتقادِهم أنَّ العبد يخلق أفعالَه(8) كلَّها مِن الطَّاعات والمعاصي، وقالوا: إنَّ الله يَتَنَزَّهُ(9) عن أن يخلق المعاصي والزِّنا والكفر وشبهَه، فبان في هذا الحديث تكذيب قولِهم بما أخبر به ◙ أنَّه يُكتب في بطن أُمِّهِ شقيٌّ أو سعيدٌ مع تعريف الله تعالى العبد أنَّ سبيل الشَّقاء هو العمل بالمعاصي والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمَه الله تعالى أنَّه يُعذِّبُه عليه، ويُشقيه به، مع قدرة العبد على اختيارِه لنفسِه وخلقِه لأعمالِه دون الله، تعالى الله(10) ╡ أن يكون معه خالقٌ غيره.
          ثمَّ قطع القدريَّة بقولِه: (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا) فلو كان الأمر إلى اختيارِه أتراه كان يختار خسارة عملِه طول عمرِه بالخير، ثمَّ يخلق لنفسه عملًا مِن الشَّرِّ والكفر، فيدخل به النَّار؟ وهل السَّابق له إلَّا فعل ربِّه وخلقُه له، وخلق عملِه للشيء كسبًا له فاكتسبَه العبد لشهوة(11) نفسِه الأمَّارة بالسُّوء مستلذًّا بذلك العمل الَّذي أقدرَه الله تعالى عليه بقدرة خلقَها له بحضرة الشَّيطان المغوي لنفسِه الأمَّارة له مع الشَّيطان بالسُّوء فاستحقَّ(12) العقاب على ذلك. فانقطعت حجُّة العبد بالنَّذارة، وانقطعت حجُّة القدريَّة بسابق كتاب الله تعالى على العبد العارف بما آل أمرُه باكتسابِه العمل(13) القبيح، لخلق الله له قدرةً على عملِه بحضرة عدويه: نفسِه(14) وشيطانِه، ولذلك نُسِبَ الشَّرُّ إلى الشَّيطان لتزيينِه له، ونُسِبَ الخير إلى الله تعالى لخلقِه لعبدِه، وإقدارِه العبدَ(15) عليه بحضرة الملك المسدِّد له الدَّافع لشيطانِه عنه بعزَّة الله وعصمتِه.
          هذا هو أصل الكلام على القدريَّة، ثمَّ يلزم القدريَّة(16) أن يكون العبد شريكًا لله ╡ في خلقِه بأنَّ(17) يكون العبد يخلق أفعالَه والله ╡ قد أبى مِن ذلك بقولِه تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، وقولِه(18): {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطر:3]فخالفوا النَّصَّ وأوجبوا للعبد مِن القدرة على خلق أعمالِه ما أوجبَه الله تعالى لنفسِه مِن الانفراد بالخلق، ولذلك سُمِّيت القدريَّة مجوس هذه الأمَّة لقولِها بخالقين مثل ما قالتْه المجوس مِن اعتبارها لأرباب مِن الشَّمس والقمر والنُّور، والنَّار والظُّلمة، كلٌّ على اختيارِه، وقد نصَّ الله تعالى على إبطال قول القدريَّة / لعلمِه بضلالتِهم ليهدي بذلك أهل سُنَّتِه فقال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصَّافات:96].
          وقوله: (يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ) قد فسَّرَه ابنُ مَسْعُودٍ، سُئِلَ الأَعْمَشُ ما يجمع في بطن أمِّه(19) قال: حدَّثني خَيْثَمَةُ قال: قال عبدُ اللهِ: إنَّ النُّطفة إذا وقعت في الرَّحم فأرادَ اللهُ أَنْ يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة تحت كلِّ ظفرٍ وشعرٍ، ثمَّ تمكث أربعين ليلةً ثمَّ تصير دمًا في الرَّحم فذلك جمعُها.


[1] قوله: ((القدر)) ليس في (ت) و(ص).
[2] زاد في (ص): ((قال)).
[3] في (ص): ((ذراعين)).
[4] في (ص): ((أو ذراعين)).
[5] في (ت) و (ص): ((قال ◙)).
[6] قوله: ((الله)) ليس في (ص).
[7] في (ت) و(ص): ((أسعيد أم شقي)).
[8] في (ت): ((وأفعالهم)).
[9] في (ص): ((منزه)).
[10] قوله: ((الله)) ليس في (ت).
[11] في (ت) و(ص): ((شهوة)).
[12] في (ص): ((واستحق)).
[13] في (ت) و (ص): ((للعمل)).
[14] صورتها في (ص): ((لسانه)).
[15] في (ص): ((للعبد)).
[16] قوله: ((ثمَّ يلزم القدريَّة)) ليس في (ت) و(ص).
[17] في (ص): ((وأنَّ)).
[18] قوله: (({وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، وقوله)) ليس في (ز) و (ت) سوى الواو العاطفة والمثبت من (ص).
[19] قوله: ((: قد فسَّره ابن مسعودٍ...في بطن أمِّه)) ليس في (ت) و(ص).