شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ينكب في سبيل الله

          ░9▒ باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يُطعَنَ في سَبِيلِ اللهِ
          فيه: أَنَسٌ: (بَعَثَ الرَّسُولُ صلعم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إلى بَنِي عَامِرٍ في سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلعم وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ، / فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ الرَّسُولِ صلعم إِذْ أَوْمَئُوا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا على بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ، إِلَّا رَجُلا أَعْرَجَ صَعِدَ إلى الْجَبَلَ.
          قَالَ هَمَّامٌ: وأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبيَّ ◙: أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، على رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ صلعم). [خ¦2801]
          وفيه: جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ في بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: [خ¦2802]
هَـلْ أَنْـتِ إِلَّا إِصْبَـعٌ دَمـِيتِ                     وفي سَبِيـلِ اللهِ مَـا لَـقِيـتِ).
          إنَّما دعا عليهم صلعم في صلاة الفريضة من أجل غدرهم، وقبيح نُكثِهم بعد تأمينهم، وآنس الله تعالى نبيَّه بما أنزل عليه من أنَّه رضي عنهم وأرضاهم.
          ففي هذا من الفقه: جواز الدُّعاء على أهل الغدر والختر وانتهاك المحارم، والإعلان باسمهم والتَّصريح بذكرهم. وقد جاء في حديث أنسٍ في باب قول الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا}[آل عِمْرَان:169]أنَّه دعا عليهم ثلاثين صباحًا. ودلَّ حديث جُنْدب بن سفيان على أنَّ كلَّ ما أصيب به المجاهد في سبيل الله من نكبة أو عثرة فإنَّ له أجر ذلك على قدر نيَّته واحتسابه.
          وأمَّا قوله صلعم: (هَـلْ أَنْـتِ إِلَّا إِصْبَـعٌ دَمـيتِ، وفي سَبِيـلِ اللهِ مَـا لَـقِيـتِ). فهو رجزٌ موزونٌ، وقد يقع على لسانه مقدار البيت من الشِّعر أو البيتين من الرَّجز كقوله: ((أنا النَّبيُّ صلعم لا كذب، أنا ابن عبد المطَّلب)). فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}[يس:69]والله يتعالى أن يقع شيءٌ من خبره أو يوجد على خلاف ما أخبر به تعالى، وهذا من الحجاج اللَّازمة لأهل الإسلام خاصَّةً، ويقال للملحدين: إنَّ ما وقع من كلامه من الموزون في النَّادر من غير قصد فليس بشعرٍ؛ لأنَّ ذلك غير ممتنعٍ على أحدٍ من العامَّة والباعة أن يقع له كلامٌ موزونٌ فلا يكن بذلك شعرًا مثل قولهم: اسقني في الكوز ماءً يا غلام، واسرج البغل وجئني بالطَّعام. وقولهم: من يشترى باذنجان. وقد يقول العامِّيُّ منهم: وخالق الأنام ورسله الكرام وبيته الحرام والرُّكن والمقام، لا فعلت كذا وكذا. وقد علم أنَّ المقسم بذلك من النِّساء والعامَّة ليس بشاعرٍ ولا قاصدٍ إلى ذلك، وهذا لا يمكن دفع اتِّفاق مثله من العامَّة، فثبت بذلك أنَّ هذا المقدار ليس بشعرٍ وأنَّ الرَّجز ليس بشعرٍ، ذكر هذا القاضي أبو بكرٍ ابن الطَّيِّب وغيره، قال وذكر بعض أهل العراق: سمعت غلامًا لصديق لي، وقد كان قد سقى بطنه. يقول لغلمان مولاه: اذهبوا به إلى الطَّبيب وقولوا قد اكتوى. وهذا الكلام يخرج وزنه عن فاعلاتٌ مفاعلٌ فاعلاتٌ مفاعلٌ مرَّتين.
          وقد علمت أنَّ هذا الغلام لا يخطر على باله قطُّ أن يقول بيت شعرٍ، ومثل هذا كثيرٌ لو تُتبِّع في كلام النَّاس.