شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ضرب دابة غيره في الغزو

          ░49▒ باب: مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ في الْغَزْوِ.
          وفيه(1): جَابِرٌ: (سَافَرْتُ مَعَ الرَّسُولِ في غَزْوَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَمَا أَقْفَلْنا، قَالَ الرَّسولُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إلى أَهْلِهِ فَلْيَتعَجَّلْ، فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا على جَمَلٍ لي أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَيَّ، فَقَالَ لي الرَّسولُ: يَا جَابِرُ، اسْتَمْسِكْ، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لي: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ) الحديث. [خ¦2861]
          قال المُهَلَّب: فيه المعونة في الجهاد بسوق الدَّابَّة وقودها، وقد رأى الرَّسول صلعم رجلًا يحطُّ رحل رجلٍ ضعيفٍ، فقال: ذهب هذا بالأجر _يعني: المعين_فكذلك المعين في سوق الدَّابَّة يؤجر على ذلك
          وفيه دليلٌ على جواز إيلام الحيوان، والحمل عليها بعض ما يشقُّ بها؛ لأنَّه جاء في بعض الحديث أنَّه كان أعيا، فإذا ضرب المعين فقد كلَّف ما يشقُّ عليه، وإذا صحَّ هذا فكذلك يجوز أن يكلِّف العبد والأمة بعض ما يشقُّ عليهما إذا كان في طاقتهما ووسعهما، ويؤدَّبا على تقصيرهما فيما يلزمهما من الخدمة.
          وفيه أنَّ السُّلطان قد يتناول الضَّرب بيده؛ لأنَّه إذا ضرب الدَّابَّة فأحرى أن يضرب الإنسان الذي يعقل؛ تأديبًا له.
          وفيه: بركة الرَّسول صلعم؛ لأنَّه ضربه، فأحدث الله له بضربه قوَّةً وأذهب عنه الإعياء.
          وقوله: (أَرمَكَ) قال أبو عبيدٍ عن الأصمعيِّ: إذا خالطت حمرَته سوادٌ فتلك الرَّمكة، وبعيرٌ أرمَك. وقال صاحب «العين»: الرَّمكة لونٌ في ورقةٍ وسوادٍ، والورقة شبه بالغرَّة.
          وقوله: (لَيسَ فِيهِ شِيَةٌ) أي: ليس لمعةٌ من غير لونه، قال صاحب «العين»: الشِّية: لمعةٌ من سوادٍ أو بياضٍ.
          وقوله: (إِذ قَامَ عليَّ الجَمَلُ) معناه: وقف من الإعياء والكَلال، قال تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}[البقرة:20].
          قال أهل التَّفسير: معناه: وقفوا. وفيه تفسيرٌ آخر، قال أبو زيدٍ: يقال: قام بي ظهري، أي: أوجعني ما أوجعك من جسدك فقد قام بك، والمعنى متقاربٌ.
          قال ابن المنذر: اختلفوا في المكتري يضرب الدَّابَّة فتموت. فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا يضرب مثله أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا: إذا ضربها ضربًا يضرب صاحبها مثله ولم يتعدَّ فليس عليه شيءٌ. واستحسن هذا القول أبو يوسف ومحمَّد.
          وقال الثَّوريُّ وأبو حنيفة: هو ضامنٌ إلَّا أن يكون أمره أن يضرب، والقول الأوَّل أولى. وعليه يدلُّ الحديث؛ لأن النَّبيَّ صلعم لم يضرب الجمل إلَّا بما يشبه أن يكون أدبًا له مثله، ولم يتعدَّ عليه فكان ذلك مباحًا، فلو مات الجمل من ذلك لم يضمنه ◙؛ لأنَّه لم يكن متعدِّيًا، والضَّمان في الشَّريعة إنَّما يلزم المتعدِّي.


[1] زاد في (ص): ((╖ عونك يا رب)).