شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحراسة في الغزو في سبيل الله

          ░70▒ باب: الْحِرَاسَةِ في الْغَزْوِ في سَبِيلِ اللهِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يسَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: لَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاص جِئْتُ لأحْرُسَكَ، وَنَامَ النَّبيُّ ◙). [خ¦2885]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ ◙: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَة وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِي رَضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ في الْحِرَاسَةِ كَانَ في الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ في السَّاقَةِ، كَانَ في السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ). [خ¦2886]
          قال المُهَلَّب: فيه التزام السُّلطان للحذر والخوف على نفسه في الحضر والسَّفر؛ ألا ترى فعل الرَّسول صلعم مع ما عرفه الله أنَّه سيكمل به دينه، ويعلي به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك، وأذى المؤذي بالعداوة في الدِّين، والحسد في الدُّنيا.
          وفيه أنَّ على النَّاس أن يحرسوا سلطانهم ويتخفَّوا به خشية الفتك وانخرام الأمر.
          وفيه أنَّه من تبرَّع بشيءٍ من الخير أنَّه يسمَّى صالحًا؛ لقوله: (لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا) أي: بيعته(1) صالحةٌ على حراسة سلطانه فكيف بنبيِّه؟.
          وفيه دليلٌ أنَّ هذا كان قبل أن ينزل عليه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67]وقَبل أن ينزل عليه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]لأنَّه قد جاء في الحديث أنَّه لمَّا نزلت هذه الآية ترك الاحتراس باللَّيل.
          وفيه أنَّه متى سمع الإنسان حسَّ سلاحٍ باللَّيل أن يقول: من هذا؟ ويعلم أنَّه ساهرٌ لئلَّا يطمع فيه أهل الطَّلب للغرَّة والغفلة؛ فإذا علم أنَّه مستيقظٌ ردعهم بذلك.
          وقوله: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ) يعني: إن طلب ذلك وقد استعبده وصار عمله كلُّه في طلب الدِّينار والدِّرهم كالعبادة لهما.
          وقوله: (إِنْ أُعْطِي رَضِي) أي: وإن أعطى ما له عملٌ رضي عن معطيه وهو خالقه ╡، وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ويسَّر له من رزقه، فصحَّ بهذا أنَّه عبدٌ في طلب هذين، فوجب الدُّعاء عليه بالتَّعس؛ لأنَّه أوقف عمله على متاع الدُّنيا الفاني وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي.
          والتَّعس: ألَّا ينتعش ولا يفيق من عثرته، وانتكس أي: عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل. وقال ابن الأنباريِّ: التَّعس: الشَّرُّ، قال تعالى: {فَتَعْسًا لَّهُمْ}[محمد:8]أراد ألزمهم الله الشَّرَّ. هذا قول المبرِّد. وقال غيره: التَّعس: البعد. وقال الرُّستميُّ: التَّعس أن يخرَّ على وجهه، والنَّكس أن يخرَّ على رأسه، قال: والتَّعس أيضًا: الهلاك. ثمَّ أكدَّ الدُّعاء عليه بقوله: (وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ) أي: إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها، فيمتنع السَّعي للدِّينار والدِّرهم، ثمَّ حضَّ على الجهاد فقال: (طُوبَى لِعَبْدٍ مُمسِكٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ) إلى آخر الحديث فجمع في هذا الحديث مدح من العمل: خير الدُّنيا والآخرة لقوله: ((الخَيلُ مَعقُودٌ في نَواصِيها الخَيرُ)) الأجر والغنيمة، ونعيم الآخرة بقوله: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم}الآية[التوبة:111].
          وفيه ترك حبِّ الرِّياسة والشُّهرة، وفضل الخمول ولزوم التَّواضع لله بأن يجهل المؤمن في الدُّنيا ولا تعرف عينه فيشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى ◙ ابن عمر فقال له: ((يا عبدالله، كن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ)) والغريب مجهول العين في الأغلب فلا يؤبه لصلاحه فيكرم من أجله ويبجَّل، فمن لزم هذه الطَّريقة كان حريًا إن استأذن ألَّا يؤذن له، وإن شفع ألَّا يشفَّع. /


[1] كذا في المطبوع وهي مهملة النقط في (ص).