شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فكاك الأسير

          ░171▒ باب: فَكَاكِ الأَسِيرِ
          فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ صلعم: (فُكُّوا الْعَانِيَ _يعني: الأسِيرَ_ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ). [خ¦3046]
          وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قُلْتُ لِعليٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا في كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: لا، والذي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا في الْقُرْآنِ، وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وفيها: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [خ¦3047]
          فكاك الأسير فرضٌ على الكفاية؛ لقوله صلعم: فكُّوا العاني. وعلى هذا كافَّة العلماء؛ وقد روي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه قال: فكاك كلِّ أسيرٍ من أسرى المسلمين من بيت المال. وبه قال إسحاق، وروى عن ابن الزُّبير أنَّه سأل الحسن بن عليٍّ عن فكاك الأسير، قال: على الأرض التي يقاتل عليها.
          وروى أشهب وابن نافعٍ عن مالكٍ أنَّه سئل: أواجبٌ على المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجبٌ عليهم أن يقاتلوا حتَّى يستنقذوهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟!
          وقال أحمد: يفادون بالرُّؤوس، وأمَّا بالمال فلا أعرفه، وقوله صلعم: (فُكُّوا العَانِي). عمومٌ في كلِّ ما يُفَادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قال عُمَر بن عبد العزيز: إذا خرج الذِّمِّيُّ بالأسير من المسلمين فلا يحلُّ للمسلمين أن يردُّوه إلى الكفر، ليفادوه بما استطاعوا. قال تعالى: {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}[البقرة:85].
          وقوله: (أَطْعِمُوا الجَائِعَ) هو فرضٌ على الكفاية أيضًا، ألا ترى رجلًا يموت جوعًا، وعندك ما تجيبه به، بحيث لا يكون في ذلك الموضع أحدٌ غيرك، الفرض عليك في إحياء نفسه، وإمساك رمقه، وإذا ارتفعت حال الضَّرورة كان ذلك ندبًا، وسيأتي شيءٌ من هذا المعنى في كتاب الأطعمة إن شاء الله. [خ¦5373]
          وأمَّا قوله: (وَعُودُوا المَرِيضَ) فهو محمولٌ على الحضِّ والنَّدب إلى التَّواخي والتَّآلف، ويحتمل أن يكون من فرض الكفاية كسائر الحديث.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا يمين عليٍّ أنَّ ما عنده إلَّا كتاب الله أو فهمًا يعطيه الله رجلًا، فهو دليلٌ على صحَّة قول مالكٍ: إنَّ العلم ليس بكثرة الرِّواية، وإنَّما هو نورٌ وفهمٌ يضعه الله في قلب من يشاء. فمن أنكر هذا على مالكٍ فلينكره على عليٍّ.
          وفيه أنَّ كتاب الله أصل العلم، وأنَّ الفهم إنَّما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبيِّن له، وقوله: و(الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ)، هو من أيمان العرب.
          قال أبو عبيدٍ: (فَلَقَ الحَبَّةَ): شقَّها في الأرض حتَّى نبتت ثمَّ أثمرت فكان منها حبٌّ كثيرٌ، وكلُّ شيءٍ شققته باثنين فقد فلقته، ومنه قوله: / {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}[الأنعام:95]والنَّسمة: كلُّ ذات نفسٍ فهي نسمةٌ، وسمِّيت نسمةَ لتنسُّمها الهواء، وبرأ الله الخلق برءًا: خلقهم.