شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من تكلم بالفارسية والرطانة

          ░188▒ باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ وَقَوْلِهِ تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[الروم:22]
          فيه: جَابِرٌ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلا بِكُمْ). [خ¦3070]
          وفيه: أُمُّ خَالِدٍ: (أَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم مَعَ أبِي، وَعليَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ صلعم: سَنَهْ، سَنَهْ _وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ_ قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أبي، قَالَ النَّبيُّ صلعم: دَعْهَا _مرَّتين_ ثُمَّ قَالَ صلعم: أَبْلِي وَأَخْلِقِي _ثلاث مراتٍ_ فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، دَكِنَ). [خ¦3071]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ على أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَقَالَ له النَّبيُّ صلعم: كِخْ، كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ). السُّؤر: الوليمة بالفارسيَّة. [خ¦3072]
          قال المؤلِّف: معنى هذا الباب في تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أنَّ ذلك أمانٌ لهم؛ لأنَّ الله تعالى يعلم الألسنة كلَّها. وأيضًا فإنَّ الكلام بالفارسيَّة يحتاج إليه المسلمون للتَّكلُّم به مع رسل العجم. قد أمر النَّبيُّ صلعم زيد بن ثابتٍ أن يتكلَّم بلسان العجم، ولذلك أدخل البخاريُّ عن الرَّسول صلعم أنَّه تكلَّم بألفاظٍ من الفارسيَّة كانت متعارفةً عندهم معلومةً وفهمها عنه أصحابه، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنَّها لغتهم. وسيأتي زيادةٌ في هذا المعنى في باب قوله: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا، بعد هذا إن شاء الله. [خ¦3172بعد]
          قال المُهَلَّب: أمَّا دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابرٍ؛ فإنَّما فعله لأنَّه علم منهم حاجةً إلى الطَّعام، وعلم أنَّه طعامٌ قد أذن له فيه ببركته ليكون آيةً وعلامةً للنُّبوَّة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السَّادس إلى دار الخيَّاط واستأذن الخيَّاط أن يدخل معهم لتكون لنا سنَّةً، ولأنَّه طعامٌ لم يؤذن له في إتيانه، وإن كان كلُّ طعامه فيه بركةٌ؛ ولكن بركةٌ تكون آيةً وعلامةً فليس هذا من ذلك الطَّعام.
          وفيه مداعبة النَّبيِّ صلعم للأطفال في اللَّعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان صلعم على خلقٍ عظيمٍ.
          وقوله: (أَبلِي وَأَخلِقِي) هو كلامٌ معروفٌ عند العرب معناه الدُّعاء بطول البقاء، قال صاحب «الأفعال»: يقال: أبلِ وأخلِقه: أي عش فخرِّق ثيابك وارقعها. وخلقت الثَّوب: أي أخرجت باليه ولفقته.
          وقوله: (فَزَبرَني) يعني: انتهرني، عن أبي عليٍّ. وقد تقدَّم تفسير (كِخْ كِخْ) في كتاب الزَّكاة في باب ما يذكر في الصَّدقة للنَّبيِّ صلعم. [خ¦1491]
          وفيه: حمل الصِّبيان وتدريبهم على الشَّرائع، والتَّجنُّب بهم الحرام والمكروه، وقد تقدَّم هذا المعنى بزيادةٍ فيه في كتاب الزَّكاة في باب أخذ صدقة التَّمر عند صرام النَّخل. [خ¦1485]
          وفيه: مخاطبة الصِّبيان بما يخاطب به الكبار الفهماء إذا فهموا، وهذه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للسلمين أنَّه لا يأكل الصَّدقة.
          والرَّطانة كلام العجم، قال صاحب «الأفعال»: يقال: رَطَن رَطَانةً، إذا تكلَّم بلسان العجم.
          وقوله: (فَحَيَّ هَلا بِكُم) قال الفرَّاء: معنى (حَيَّ) عند العرب هلمَّ وأقبل(1). فالمعنى هلمُّوا إلى طعام جابرٍ وأقبلوا إليه، ومثله قول المؤذِّن: حيَّ على الصَّلاة، أي: أقبلوا إليها، وفتحت الياء من حيَّ لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما قالوا: ليت ولعلَّ. ومنه قول ابن مسعودٍ: إذا ذكر الصَّالحون فحيَّ / هلا، وحيَّ هَلَ، وحيَّ هَلْ، وحيَّ أهلًا آل عمر، وحيَّ هلا على عمر.


[1] صورتها في (ص): ((وأهل)) والمثبت التوضيح.