شرح الجامع الصحيح لابن بطال

كتاب الحدود

          ░░86▒▒ كِتَاب الْحُدُودِ
          ░1▒ باب: ما يُحذَرُ مِنَ الحُدُودِ
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإيمَانِ في الزِّنَا.
          فيه: أَبو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ). وترجم له باب السارق حين يسرق. [خ¦6772]
          قال الطبريُّ: اختلف مَنْ قِبَلنا في معنى هذا الحديث فأنكر بعضهم أن يكون رسول الله صلعم قال هذا القول. قال عطاءٌ: اختلف الرواة في أداء لفظ النَّبيِّ صلعم بذلك، قال محمَّد بن زيد بن واقد بن عبد الله بن عُمَر بن الخطَّاب، وسئل عن تفسير هذا الحديث فقال: إنَّما قال رسول الله صلعم: ((لا يزنينَّ مؤمنٌ ولا يسرقنَّ مؤمنٌ)).
          وقال آخرون: عنى بذلك: لا يزني الزاني وهو للزنا مستحلٌّ غير مؤمنٍ بتحريم الله تعالى ذلك عليه، فأمَّا إن زنا وهو معتقدٌ تحريمه فهو مؤمنٌ، روي ذلك عن عِكْرِمَة عن ابن عبَّاسٍ.
          وحجَّة هذه المقالة حديث أبي ذرٍّ أن النبي صلعم قال: ((من قال: لا إله إلَّا الله دخل الجنَّة، وإن زنا وإن سرق وإن رغم أنف أبي ذرٍّ)).
          وقال آخرون: ينزع منه الإيمان فيزول عنه اسم المدح الذي يُسمَّى به أولياء الله المؤمنون، ويستحقُّ اسم الذمِّ الذي يسمَّى به المنافق فيوسم به ويقال له منافقٌ وفاسقٌ. روي هذا عن الحسن قال: النفاق نفاقان: نفاق تكذيبٍ بمحمَّدٍ صلعم فهذا لا يغفر، ونفاق خطايا وذنوبٍ يرجى لصاحبها.
          وعن الأوزاعيِّ قال: كانوا لا يكفِّرون أحدًا بذنبٍ، ولا يشهدون على أحدٍ بكفرٍ، ويتخوَّفون نفاق الأعمال على أنفسهم.
          قال الوليد بن مسلمٍ: ويصدِّق قول الأوزاعيِّ أنَّه كان من قول السلف ما حدَّثنا الأوزاعيُّ، عن هارون بن رئابٍ: أنَّ عبد الله بن عُمَر قال في مرضه: زوِّجوا فلانًا ابنتي فلانة، فإنِّي كنت وعدته بذلك وأنا أكره أن ألقى الله بثلث النفاق، وما حدَّثناه عن الزهريِّ عن عروة: أنَّه قال لابن عمر: الرجل يدخل منَّا على الإمام فيراه يقضي بالجور فيسكت، وينظر إلى أحدنا فيثني عليه بذلك، فقال عبد الله: أمَّا نحن معاشرَ أصحاب رسول الله صلعم فكنَّا نعدُّها نفاقًا، فلا أدري كيف تعدُّونه، وعن حذيفة: أنَّه سئل عن المنافق فقال: الذي يتكلَّم بالإسلام ولا يعمل به.
          وحجَّة هذا القول أنَّ النفاق إنَّما هو إظهار المرء بلسانه قولًا يبطن خلافه كنافِقَاء اليَربُوع الذي يتَّخذه كي إن طلبه الصائد من قبل مدخلٍ قصَّع من خلافه، فمن لم يجتنب الكبائر من أهل التوحيد علمنا أنَّ ما أظهره من الإقرار بلسانه خداعٌ للمؤمنين فاستحقَّ اسم النفاق.
          ويشهد لذلك قوله ◙: ((ثلاث من علامات المنافق، إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، والزنا والسرقة وشرب الخمر أدلُّ على النفاق من هذه الثلاث.
          وقال آخرون: إذا أتى المؤمن كبيرةً نُزِع منه الإيمان وإذا فارقها عاد إليه الإيمان.
          روي عن أبي الدرداء قال عبد الله بن رواحة: إنَّما مثل الإيمان مثل قميصٍ بينما أنت قد نزعته إذا لبسته، وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته.
          وعن يزيد بن أبي حبيبٍ عن أسلم بن عُمَر أنَّه سمع أبا أيُّوب يقول: إنَّه ليمرُّ على المرء ساعةٌ وما في جلده موضع إبرةٍ من إيمانٍ. وتمرُّ به(1) ساعةً وما في جلده موضع إبرةٍ من نفاقٍ.
          وعلَّة هذه المقالة أنَّ الأيمان هو التصديق، غير أنَّ التصديق معنيان أحدهما قولٌ والآخر عملٌ.
          فإذا ركب المصدِّق كبيرةً فارقه اسم الإيمان، كما يقال للاثنين إذا اجتمعا اثنين، فإذا انفرد كلُّ واحدٍ منهما لم يُقَل له إلَّا واحدٌ، وزال عنهما الاسم الذي كان لهما في حال الاجتماع، فكذلك الإيمان إنَّما هو اسم التصديق الذي هو الإقرار والعمل الذي هو اجتناب الكبائر.
          فإذا واقع المقرُّ كبيرةً زال عنه اسم الإيمان في حال مواقعته، فإذا كفَّ عنها عاد له الاسم؛ لأنَّه في حال كفِّه عن الكبيرة مجتنبٌ لها وباللسان مصدِّقٌ، وذلك معنى الإيمان عندهم.
          وقال بعض الخوارج والرافضة والإباضيَّة: من فعل شيئًا من ذلك فهو كافرٌ خارجٌ عن الإيمان؛ لأنَّهم يُكفِّرون المؤمنين بالذنوب ويوجبون عليهم التخليد في النار بالمعاصي، ومن حجَّتهم ظاهر حديث أبي هريرة (لَا يَزنِي وَهُو مُؤمِنٌ).
          قال أبو هريرة: الإيمان فوقه هكذا فإن هو تاب راجعه الإيمان وإن أصرَّ ومضى فارقه. وقال أبو صالحٍ عن أبي هريرة: ينزع منه الإيمان فإن تاب رُدَّ إليه.
          قالوا: ومن نُزِع منه الإيمان فهو كافرٌ؛ لأنَّه لا منزلة بين الإيمان والكفر، ومن لم يكن مؤمنًا فهو كافرٌ. وجماعة أهل السنَّة وجمهور الأمَّة على خلافهم.
          قال الطبريُّ: وحجَّة أهل السنَّة أنَّ ابن عبَّاسٍ قد بيَّن حديث أبي هريرة وقال: إنَّ العبد إذا زنا نُزِع منه نور الإيمان لا الإيمان.
          حدَّثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدَّثنا محمَّد بن كثيرٍ عن شَرِيك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: سمعت النبيَّ صلعم يقول: ((من زنا نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يردَّه عليه ردَّه)).
          والصواب عندنا قول من قال: يزول عنه الاسم الذي هو بمعنى المدح إلى الاسم الذي هو بمعنى الذمِّ، فيقال له فاجرٌ فاسقٌ زانٍ سارقٌ.
          ولا خلاف بين جميع الأمَّة أنَّ ذلك من أسمائه ما لم تظهر منه التوبة من الكبيرة، ويزول عنه اسم الإيمان بالإطلاق والكمال بركوبه ذلك، ونثبته له بالتقييد فنقول: هو مؤمنٌ بالله وبرسوله مصدِّقٌ قولًا، ولا نقول مطلقًا هو مؤمنٌ إذ كان الإيمان عندنا معرفةً وقولًا وعملًا، فلمَّا لم يأت بها كلِّها استحقَّ التسمية بالإيمان على غير الإطلاق والاستكمال له.
          قال المُهَلَّب: وقوله صلعم: ((ينزع منه نور الإيمان)) يعني ينزع منه بصيرته في طاعة الله لغلبة الشهوة عليه، فكأنَّ تلك البصيرة نورٌ طفته الشهوة من قلبه، ويشهد لهذا قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14].
          وقد تقدَّم شيءٌ من هذا المعنى في كتاب الإيمان في باب علامات المنافق، [خ¦33] والعلم في باب من خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ كراهة ألَّا يفهموا. [خ¦128] [خ¦129]


[1] في (ز): ((قد ربى)) والمثبت من التوضيح لابن الملقن.