شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يستأسر الرجل؟ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل

          ░170▒ باب: هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ، وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْلِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ ☺: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ؛ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَؤوا إلى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا، وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ في ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صلعم، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا في سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِيُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لي في هَؤُلاءِ لأسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ على أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، / فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَقَالَت ابْنَة الْحَارِثِ أَنَهُ اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لي، وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ يُجْلِسَهُ على فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ في وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ في يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ في الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَأَطَلتُهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا: [خ¦3045]
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا                     عَلَى أيِّ شِقٍّ(1) كَانَ في اللِه مَصرَعِي
وَذَلِـكَ في ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ                     يُبَـارِكْ على أَوْصَـالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
          فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللهُ لِعَاصِمِ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولَ صلعم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللهُ على عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا على أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا).
          قال المُهَلَّب: فيه أنَّه جائزٌ أن يستأسر(2) الرَّجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله في إحياء نفسه، كما فعل خُبَيْبٌ، وصاحباه.
          وقال الحسن البصريُّ: لا بأس أن يستأسر الرَّجل إذا خاف أن يُغلَب. وقال الأوزاعيُّ: لا بأس للأسير بالشِّدَّة والإباءة من الأسر والأنفة من أن يجرى ملك كافرٍ كما فعل عاصمٌ وأحد صاحبي خُبَيْبٍ، حين(3) أبى من السَّير معهم، حتَّى قتلوه.
          وقال الثَّوريُّ: أكره للأسير المسلم أن يمكِّن من نفسه إلَّا مجبورًا.
          وفيه استنان الرَّكعتين لكلِّ من قتل صبرًا.
          وفيه استنان الاستحداد لمن أُسِر، ولمن يُقتَل، والتَّنظيف لمن يضيع(4) بعد القتل لئلَّا يُطَّلع منه على قبح عورةٍ، وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه: التَّورُّع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين.
          وفيه: الامتداح بالشِّعر في حين ينزل بالمرء هوانٌ في دينٍ أو ذلَّة ليسلِّي بذلك نفسه، ويرغم بذلك أنف عدوِّه، ويجدِّد في نفسه صبرًا وأنفةً. وأمَّا قول جويرية: (رَأيتُ فِي يَدِهِ قِطَفَ عِنَبٍ، ومَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرةٍ) فهذا ممكنٌ أن يكون آيةً لله تعالى على الكفَّار، وبرهانًا لنبيِّه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفَّار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب الرَّسول صلعم.
          فأمَّا من يذكر اليوم مثل هذا بين ظهراني المسلمين فليس لذلك وجهٌ؛ إذ المسلمون كلُّهم قد دخلوا في دين الله أفواجًا، وآمنوا بمحمَّدٍ، وأيقنوا به، فأيُّ معنًى لإظهار آيةٍ عندهم، وعلى ما يستشهد بها فيهم؛ لأنَّه قد يشكُّ المرتاب ومن في قلبه غرارةٌ وجهلٌ. يقول: إذا جاز ظهور هذه الآيات من غير نبيٍّ، فكيف يصدِّقها من نبيٍّ وغيره يأتي بها، فلو لم يكن رفع في هذا إلَّا رفع(5) الرَّيب عن قلوب أهل التَّقصير والغرارة والجهل لكان قطع الذَّريعة واجبًا، والمنع منها لازمًا لهذه العلَّة، فكيف ولا معنى لها في الإسلام بعد تأصُّله، وعند أهل الإيمان بعد تمكُّنه، إلَّا أن يكون من ذلك ما لا يخرق عادةً، ولا يقلب عينًا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه في أمرٍ عسيرٍ وسببٍ ممتنعٍ، ودفع بأسٍ نازلٍ وشنعةٍ قد أظلَّت فيصرفها بلطفه عن وليِّه، فهذا ومثله ممَّا يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الوليِّ عند ربِّه، وقد أخبرني أبو عِمْرَان الفقيه الحافظ بالقيروان أنَّه / وقف أبا بكر بن الطَّيِّب الباقلانيَّ على تجويزه لهذه المعجزات، فقال له: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا وما ندَّعيه من المسائل المخالفة لكم ظهور هذه الآية على يدي رجلٍ صالحٍ منا. قال أبو عِمْرَان: فأطرق عنِّي ومطلني بالجواب، ثمَّ اقتضيته في مجلسٍ آخر، فقال لي: كلُّ ما اعترض من هذه الأشياء شيئًا من الدِّين أو السُّنن أو ما عليه صحيح العلم، فلا يقبل أصلًا على أيِّ طريقٍ جاء. فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطَّيِّب.
          أمَّا حماية الله عاصمًا (مِنَ الدَّبرِ) فلئلَّا ينتهك حرمته عدوُّه، فهذه الكرامة التي تجوز، ومثل ذلك غير منكرٍ؛ لأنَّ الله حماه على طريق العادة، ولم يكن قلب عينٍ ولا خرق عادةٍ، فهذا ومثله جائزٌ وفيه علامةٌ من علامات النُّبوَّة بإجابة دعوة عاصمٍ بأن أخبر الله نبيَّه صلعم بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين.
          والدَّبر جماعة النَّحل لا واحد لها، وكذلك الثَّول والخَشرَم لا واحد لشيءٍ منها، كما يقال لجماعة الجراد: رِجْلٌ. ولجماعة النَّعام: خِيطٌ، ولجماعة الظِّباء: إِجْلٌ، وليس لشيءٍّ من ذلك واحدٌّ.


[1] في (ص): ((شيء)) والمثبت المطبوع.
[2] في (ص) والمطبوع: ((يستأنس)) وكذا في الموضع بعده، والمثبت من التوضيح.
[3] في (ص) والمطبوع: ((حتى)) والمثبت من التوضيح.
[4] كذا في التوضيح، وفي (ص) غير منقوطة وبيض لها في المطبوع.
[5] في (ص): ((في رفع إلا هذا)) والمثبت من التوضيح.