شرح الجامع الصحيح لابن بطال

[كتاب الصلح]

          ░░53▒▒ كِتَاب الصُّلْحِ
          ░1▒ باب: مَا جَاءَ في الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ
          وَقَوْلِهِ ╡: {لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بصَدقَةٍ} إلى آخر(1) الآية[النساء:114]، وَخُرُوجِ الإمَامِ إلى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ.
          فيه: سَهْلٌ: (أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبيُّ صلعم في أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ) الحديث. [خ¦2690]
          وفيه: أَنَسٌ: (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلعم: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ(2) النَّبيُّ صلعم وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَق(3) الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبيُّ صلعم قَالَ(4): إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ. فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنْهُمْ: وَاللهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللهِ صلعم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ. فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية[الحجرات:9]). [خ¦2691]
          الإصلاح بين الناس واجبٌ على الأئمَّة وعلى من ولَّاه الله أمور المسلمين.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليه أمرهم وتعذَّر ثبوت الحقيقة عنده فيهم، فحينئذٍ ينهض إلى الطائفتين، ويسمع من الفريقين ومن الرجل والمرأة، ومن كافَّة الناس سماعًا فاشيًا يدلُّه على الحقيقة. هذا قول كافَّة العلماء، وكذلك ينهض الإمام إلى العقارات والأرضين المتشاحِّ في قسمتها فيعاين ذلك. وقال عطاءٌ: لا يحلُّ للإمام إذا تبيَّن له القضاء أن يصلح بين الخصوم وإنَّما يسعه ذلك في الأموال المشكلة، فأمَّا إذا استنارت الحجَّة لأحد الخصمين على الآخر، وتبيَّن للحاكم موضع الظالم من المظلوم فلا يسعه أن يحملهما على الصلح. وبه قال أبو عبيدٍ. وقال الشافعيُّ: يأمرهما بالصلح، ويؤخِّر الحكم بينهما يومًا أو يومين، فإن لم يجتمعا لم يكن له ترديدهما وأنفذ الحكم بينهما، والحكم قبل البيان ظلمٌ، والحبس للحكم بعد البيان ظلمٌ.
          وقال الكوفيُّون: إن طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يردِّدهما ولا ينفذ الحكم بينهما لعلَّهما يصطلحان، ولا يردَّهم أكثر من مرَّةٍ أو مرَّتين إن طمع في الصلح بينهم، فإن لم يطمع فيه أنفذ القضاء بينهم. واحتجُّوا بما روي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه قال: ردِّدوا(5) الخصوم حتَّى يصطلحوا فإن فصل القضاء يُحدِث(6) بين الناس الضغائن.
          وأمَّا مسير النبيِّ صلعم إلى عبد الله بن أبيٍّ، فإنَّما فعل ذلك أوَّل قدومه المدينة؛ ليدعوه إلى الإسلام؛ إذ التبليغ فرضٌ عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته في قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوِّجوه بتاج الإمارة، كذلك(7) قال سعد بن عُبَاْدَة للنبيِّ صلعم أنَّه صنع به ما صنع عن التوقُّف عن الإسلام ما كانوا عزموا عليه من توليته الإمارة، حتَّى بعث الله تعالى نبيَّه فأبطل الباطل وصدع بالحقِّ وبلَّغ الدين.
          وفيه / من الفقه: أنَّ الإمام إذا مضى إلى موضعٍ فيه أعداءٌ له أنَّ على المسلمين أن يمشوا معه ويحرسوه فإن جُفي عليه نصروه، كما فعل عبد الله بن رواحة حين قال: (وَاللهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللهِ أَطْيَبُ رِيحًا مِنكَ). فإن نوزع قاتلوا دونه.
          وقول أنسٍ: (فَبَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ: {وَإِن طَائِفَتَانِ اقتَتَلوا(8)}[الحجرات:9]) يستحيل أن تكون الآية نزلت في قصَّة عبد الله بن أبيٍّ وفي قتال أصحابه مع النبيِّ صلعم؛ لأنَّ أصحاب عبد الله بن أبيٍّ ليسوا بمؤمنين، وقد تعصَّبوا له بعد الإسلام في قصَّة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبيَّنًا في هذا الحديث في كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيدٍ: أنَّ النبيَّ صلعم مرَّ في مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين(9) وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبيٍّ. وذكر الحديث. فدلَّ أنَّ الآية لم تنزل في قصَّة عبد الله بن أبيٍّ، وإنَّما نزلت في قومٍ من الأوس والخزرج اختلفوا في حقٍّ فاقتتلوا بالعصيِّ والنعال، هذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وقَتادة.


[1] قوله: (({بصدقة} إلى آخر)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((إليه)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((وانطلق)).
[4] في (ص): ((فقال)).
[5] في (ص): ((ردوا)).
[6] في (ص): ((يورث)).
[7] في (ص): ((وكذلك)).
[8] قوله: ((اقتتلوا)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((المشركين والمسلمين)).