شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قتل الأسير وقتل الصبر

          ░169▒ باب: قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتَلِ الصَّبْرِ /
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وعلى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَه رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ). [خ¦3044]
          قد تقدَّم القول في قتل الأسرى، وأنَّ الإمام مخيَّرٌ بين القتل والمنِّ، وكذلك فعل الرَّسول صلعم يوم فتح مكَّة؛ قتل ابن خَطلٍ ومِقيَس بن صبابة والقينتين ومن على الباقين.
          وفيه أنَّ للإمام أن يقتل صبرًا من حادَّ الله ورسوله صلعم وكان في قتله صلاحًا للمسلمين، كما قتل يوم بدرٍ عقبة بن أبي مُعَيط، قام إليه عليُّ بن أبي طالبٍ فقتله صبرًا. فقال: من للصِّبية يا محمَّد؟ قال: النار. وقتل النَّضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد بن معاذٍ في بنى قريظة، وهذا الحديث حجَّةٌ لقول جمهور العلماء أنَّ مكَّة فتحت عنوةً، وقد تقدَّم ذلك في كتاب الحجِّ. [خ¦1834]
          ومن الآثار الدَّالة على ذلك ما ذكره أبو عبيدٍ قال: حدثنا أبو النَّضر، عن سليمان بن المغيرة، حدَّثنا ثابتٌ البنانيُّ، عن عبد الله بن رَبَاح، عن أبي هريرة ☺ أنَّه حدَّث بفتح مكَّة قال: ثمَّ أقبل رسول الله صلعم حين قدم مكَّة، فبعث الزُّبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجرَّاح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادي، فأمرني رسول الله صلعم فناديت بالأنصار، فلمَّا طافت به قال: ((أترون أوباش قريشٍ وأتباعهم؟ ثمَّ قال: بيده _إحداهما على الأخرى_: احصدوهم حصدًا، حتَّى توافوني بالصَّفا)).
          قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحدٌ منَّا أن يقتل منهم من شاء إلَّا قتله. فجاء أبو سفيان بن حربٍ فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريشٍ، فلا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلعم: ((من أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ)).
          قال أبو عبيدٍ: حدَّثنا هشيمٌ، عن حصين بن عبد الرَّحمن، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال رسول الله صلعم يوم فتح مكَّة: ((ألا لا يُجهَزنَّ على جريحٍ، ولا يُتَّبع مدبرٌ، ولا يُقتلَنَّ أسيرٌ، ومن أغلق بابه فهو آمنٌ)).
          وهذا بيِّنٌ في دخولها عنوةً، ومن خالف ذلك واعتلَّ بأن الرَّسول صلعم لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغُنم لها واسترقاق أهلها فلم تكن عنوةً، فقد علم من تخصيص مكَّة، ومباينتها في أحكامها لسائر البلاد، ما فيه مقنعٌ من أنَّها حرامٌ، وأنَّها مناخ من سبق فلا تُباع رباعها، ولا تُكرى بيوتها، ولا تحلُّ لقطتها، ولا تحلُّ غنائمها، فليست تشبه مكَّة شيئًا من البلاد.