شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب سفر الاثنين

          ░42▒ باب: سَفَرِ الاثْنَيْنِ.
          فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: (انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ الرَّسولِ، فَقَالَ لَنَا _أَنَا وَصَاحِبٍ لي_: أَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا). [خ¦2848]
          إن قال قائل: إباحته ◙ لمالك بن الحويرث وصاحبه أن يؤذِّنا ويقيما عند انصرافهما من عنده، يعارض قوله ◙: ((الرَّاكب شيطان، والرَّاكبان شيطانان)) ونهيه أن يسافر الرَّجل وحده. قيل: ليس كما توهَّمت؛ لأنَّه لا يجوز على أخباره التَّضادُّ.
          قال الطَّبريُّ: ونهيه عن سفر الرَّجل وحده والاثنين نهي أدبٍ وإرشادٍ لما يُخشَى على فاعل ذلك من الوحشة بالوحدة، لا نهي تحريمٍ، وذلك نظير نهيه عن الأكل من وسط الطَّعام، وعن الشُّرب من في السِّقاء، والنَّهي عن المبيت على السَّطح غير المحجور، وكلُّ ذلك تأديبٌ لأمَّته، وتعريفٌ لهم منه ما فيه حظُّهم وصلاحهم، لا شريعة ودين يحرجون بتضييعه وترك العمل به، فالعامل محتاطٌ لنفسه من مكروهٍ يلحقه إن ضيعه.
          وذلك أنَّ السَّائر في فلاةٍ وحده والبائت في بيت وحده إذا كان ذا قلبٍ مخيفٍ وفكرٍ رديءٍ لم يؤمن أن يكون ذلك سببًا لفساد عقله، والنَّائم على سطحٍ غير محجورٍ عليه غير مأمونٍ أن يقوم بوسن النَّوم وغمور فهمه فيتردَّى منه فيهلك، والشَّارب من في السِّقاء غير مأمونٍ عليه انحدار ما خفي عليه استكنانه من الهوامِّ القاتلة في السِّقاء فيهلك أيضًا، وكذلك المسافر مع آخر قد يخشى من غائلته ولا يأمن مكره، فإذا كانوا ثلاثةً أمن ذلك في الأغلب، وهذا وما أشبهه من تأديبه ◙ لأمَّته.
          وأيضًا فإنَّ النَّاس مختلفو الأحوال متفاوتو الأسباب، فمن كَمِيٍّ باسلٍ لا يهوله هائلٌ ولا يبقي غول غائلٍ، فهو لا يبالي وحده سلك المفاوز أو في عسكرٍ، فذلك الذي أذن عمر في السَّير لمثله من المدينة إلى الكوفة وحده حين بلغه عن سعدٍ أنَّه بنى قصرًا أو أمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كلُّ منظرٍ، ويهوله كلُّ شخصٍ، ويفزعه كلُّ صوتٍ، فذلك الذي يحرم عليه أن يسافر وحده، ويمكن أن يكون الذي نهاه الرَّسول صلعم أن يبيت وحده كان بهذه الصِّفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له في نفسه ودينه ترك السَّفر وحده ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشَّجاعة / والقوَّة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع ومن نفسه الخَور خشيت عليه في السَّفر وحده الإثم والحرج وأن يورثه ذلك العلل الرَّديَّة.