شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحرير في الحرب

          ░91▒ باب: الْحَرِيرِ في الْحَرْبِ
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ في قَمِيصٍ حَرِيرٍ لحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. وَقَالَ مرَّةً: لقَمْلٍ، فَأَرْخَصَ لَهُمَا في الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا في غَزَاةٍ). [خ¦2919]
          اختلف السَّلف في لباس الحرير في الحرب، فأجازته طائفةٌ وكرهته طائفةٌ، فممَّن كرهه عُمَر بن الخطَّاب، وروي مثله عن ابن مُحَيْرِيز وعكرمة وابن سيرين وقالوا: كراهيته في الحرب أشدُّ لما يرجون من الشَّهادة، وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، وقال مالكٍ: ما علمت أحدًا يقتدى به لبسه في الغزو.
          وممَّن أجازه في الحرب: روى معمرٌّ، عن ثابتٍ قال: رأيت أنس بن مالكٍ يلبس الدِّيباج في فزعةٍ فزعها النَّاس. وقال أبو فَرْقَد: رأيت على تجافيف أبي موسى الدِّيباج والحرير. وقال عطاءٌ: الدِّيباج في الحرب سلاحٌ. وأجازه عروة والحسن البصريِّ، وهو قول أبي يوسف والشَّافعيِّ.
          وذكر ابن حبيبٍ عن ابن الماجشون أنَّه استحبَّ الحرير في الجهاد والصَّلاة به حينئذٍ للتَّرهيب على العدوِّ والمباهاة، وفي «مختصر ابن شعبان» عن ابن الماجِشون، عن مالكٍ مثل ما ذكره ابن حبيبٍ.
          وقال الطَّبريُّ: أمَّا الذين كرهوا لباسه في الحرب وغيره فإنَّهم جعلوا النَّهي عنه عامًّا في كلِّ حالٍ. والذين رخَّصوا في لباسه في الحرب احتجُّوا بترخيصه صلعم لعبد الرَّحمن بن عوفٍ والزُّبير في لباسه للحكَّة والقُمَّل، فبان بذلك أنَّ من قصد بلبسه إلى دفع ما هو أعظم عليه من أذى الحكَّة، كأسلحة العدوِّ المريد نفس لابسه بنبلٍ ونشابٍ، ولبسه، فله من ذلك نظير الذي كان لعبد الرَّحمن والزُّبير لسبب الحكَّة، أيضًا ما حدَّثنا به أبو كريبٍ، حدَّثنا أبو خالد وعبدة بن سليمان، عن حجَّاج، عن أبي عثمان ختن عطاءٍ عن أسماء، قال: (خرجت إلينا جبَّةً مزرَّرةً بالدِّيباج، وقالت: كان رسول الله يلبسها في الحرب).
          قال المُهَلَّب: ولباسه في الحرب من باب الإرهاب على العدوِّ، وكذلك ما رخِّص فيه من تحلية السُّيوف وكلُّ ما استعمل في الحرب هو من هذا الباب.
          ويدلُّ على أنَّ أفضل ما استعمل في قتال العدوِّ التَّخيُّل في إحدى الخِيَل في قذف الرُّعب والخشية في قلوبهم، وكذلك رُخِّص في الاختيال في الحرب، وقال ◙ لأبي دجانة وهو يتبختر في مشيته: ((إنَّها لمشيةٌ يبغضها الله إلَّا في هذا الموضع))، لما في ذلك من الإرهاب على أعداء الله، وقام الدَّليل من هذا على أنَّ حسن الرَّأي وجودة التَّدبير من الرَّجل الواحد يشير به في قتال العدوِّ وقد يكون أنكى من الشَّجاعة وغَناءِ(1) العساكر العظام.


[1] هكذا ترجحت قراءتنا لهذه الكلمة في (ص) وكذا هي في التوضيح، وبيض لها في المطبوع.